في كتابه "كيف تتحدث عن كتاب لم تقرأه؟" (ترجم إلى العربية عن "دار كلمات")، يحاول الفرنسي بيار بايار قدر ما يستطيع أن يقنعنا بأننا غالباً ما لا نقرأ الكتب، وكثيراً ما نتحدث عن كتب وكتّاب ظننّا أننا قرأناهم، دون أن تكون لنا معرفة دقيقة بالكلمات المتتالية التي تتبّعناها من الغلاف إلى الغلاف.
غير أن الكاتب نفسه أشار في الفصل الأخير من القسم الثالث في كتابه: "تحدّث عن نفسك"، إلى حيلة ماكرة لا يمكن أن تصدر إلا عن قارئ خبير، ومحتال متمرّس: اهرب من الحديث عن الكتاب والكاتب، وتحدّث عن نفسك أكثر.
ربما تكون هذه النصيحة "الخبيثة"، هي ما حاولت الكاتبة الفرنسية - الإيرانية ليلى أعظم زنكنة تطبيقها إلى حد بعيد، في كتابها "الفاتن: نابوكوف والسعادة" (أعلن مؤخراً عن صدور ترجمته العربية عن "منشورات الجمل" بتوقيع مازن معروف، بعد أن صدر بالإنكليزية والفرنسية معاً سنة 2011).
ولدت زنكنة في باريس عام 1976 لأبوين إيرانيين، وهي إذ تجمع أكثر من "هوية" وتكتب وتتحدث بأكثر من لغة، تحاول في كتابها هذا وفي بعض من أعمالها الأخرى، الهروب من الهوية الكتابية، لتعبر فوق الأنواع، وتصيغ مثلاً في كتابها هذا مزيجاً من النقد الأدبي والبيوغرافيا والتخييل وفن الرسالة، منجزةً كتاباً/ حواراً/ رسالة موجهة إلى الكاتب الروسي الفرنسي فلاديمير نابوكوف (1899-1977)، محورها الأساس: السعادة.
تروي زنكنة سيرتها، وتستنطق ذاكرتها عن قراءتها لنابوكوف وتفاعلها معه ومع شخصيات كتبه، في خمسة عشر فصلاً، منها: "السعادة في نقطة متوهجة من الذاكرة"، و"السعادة الباذخة لحالم ما"، و"السعادة أو على الأقل جزء منها"، و"مغامرة سعادة قارئة" وغيرها...
تقول الكاتبة إنها عبر نابوكوف وبسبب كتبه، تعرّفت على القراءة وربطت علاقة وثيقة معه ومع الكتاب، لذلك فهي ترى نفسها "مدينة لهذا الرجل، الذي لولاه لكنت لا أزال أعتبر القراءة ترفاً".
وهي إذ تقدّم كتابها عن علاقتها بنابوكوف (وتلقبه باسم "الفاتن"، عنوان أحد كتبه) وعن مسيرتها النفسية خلال فترات قراءتها له وعنه، تمارس في الآن ذاته دور قارئته الأولى وناقدته الأولى، وكأن كتبه المذكورة ستصدر في اليوم التالي، كما أنها في الآن ذاته تصبح نابوكوف ذاته، تتحدث لغته وتفكّر من خلال ما كتبه هو/ تكتبه هي.
يقدّم هذا الكتاب تجربة فريدة للتعرف على عوالم هذا الكاتب واقعياً وتخييلياً، والتعرف على أوجه جديدة لشخوص كتبه. إن زنكنة تقدّم هنا ما يقارب ويشابه "كتابة التشكيل النفسي" Bildungsroman، إنها تقدم كاتباً لم نعرفه بهذا الشكل على الأقل، وتتحدث عن كتب له لم نقرأها ولن نقرأها إلا من خلالها.