ليلة القبض على الانقلاب

25 يوليو 2016
+ الخط -
لم أفهم، حتى هذه اللحظة، سر البهجة التي ظهرت علاماتها واضحةً على وجوه بعض الساهرين في الحفل، وإنْ حاول بعضهم مداراتها، في أثناء لقاءٍ ضم نخبة متنوعة من الأشخاص، متبايني مستوى الوعي السياسي، وكذلك مدى الاكتراث بالشأن العام، من حيث المبدأ. حدّقت بهم مستغربةً غير قادرة على التصديق. كان ذلك إثر ورود أنباء عاجلة عن محاولة الانقلاب العسكري في تركيا التي دعت جميع الحضور إلى نسيان مناسبة اللقاء، والهرع إلى فتح موبايلاتهم، بغية التأكد من صحة الخبر العظيم غير المتوقع، والأدهى أن أحد الزملاء غير المتحفظين الذي عبر عن غبطةٍ فوريةٍ بالرقص والغناء، معبّراً عن شماتةٍ مؤسفةٍ، حتى قبل أن يتيح لنفسه الوقوف على حقيقة الخبر، لكي يفهم (من انقلب على من)، أو عدد الضحايا الذين سقطوا في الأحداث، أو إلى أي علوٍ وصلت ألسنة النيران عند الجيران، ومصير ملايين اللاجئين. والمفارقة أن الرفيق، في واقع الأمر، من أشد دعاة الدولة المدنية، ومن أشرس المدافعين عن الحريات وحقوق الإنسان، وأهمية فصل الدين عن الدولة. ويكتب القصائد في تمجيد حق تقرير المصير. ذلك كله على الرغم من هوسه المستتر بالطغاة ورموز الاستبداد الذي يعلق صورهم على جدران بيته، باعتبارهم قادةً أفذاذاً لم يقودوا هذه الأمة تباعاً إلى الهلاك والخيبة. لم ينظر الرفيق غير المحنك إلى أبعد من أنفه، ولم يخطر في باله التحلي بقليلٍ من الموضوعية، لإدراك هول ما قد يحدث وكارثيته وتبعاته على أبناء الشعب التركي الذين غدا مستقبلهم في لحظة مفصلية، غير محسوبة في مهب الريح. ما يدلّ، بلا أدنى شك، على ضيق أفقٍ ومحدودية تفكير، لأنه، كما اتضح، من ردة الفعل مفرطة البهجة أن مشكلة الزميل ورهطه تنحصر في شخص رجب طيب أردوغان بالذات.
تبين أن الزميل يمقت الرجل إلى درجةٍ كبيرةٍ، تتعدّى رفض طريقته إدارة الأمور، بل إنه يضمر له حقداً كبيراً، وكأن هناك ثأراً شخصياً مع الرجل، لا بد من تصفيته، فأسهب بالحديث منفعلاً عن اقتصاد تركيا المنهار، وعن فاشيته وسياسته التوسعية في المنطقة. وعرج على الكليشية المكرورة المملة، عن دعم الأتراك الإرهاب، وتهديد أمن سورية واستقرارها، الحشد والرباط والمقاومة والممانعة، باعتبار الدولة السورية المتينة رابطة الجأش غير مخترقة طولاً وعرضاً، وأوضاعها بألف خير، ما شاء الله. يعيش فيها ما تبقى من شعب سورية المقطعة أوصاله في ظل أمان السيد الرئيس الملهم وعطفه وحنانه، فلا غلاء فاحشاً يُذكر، ولا انقطاع تيار كهربائي يُغرق البلد طوعياً في الظلام، ولا شح في المواد الأساسية. أمان واستقرار، بفضل حواجز إيرانية تستبيح البلد، وتحيل حياة السوري إلى جحيم دائم، ولا لجوء قائم مدار الساعة، هرباً من هذا النعيم الأسدي، وهو الذي وعد الناس بالحرق والنار والدمار، منذ صرخة الحرية الأولى التي انطلقت من درعا، بحناجر شعب حر كريم، قال كلمته في و جه الطغيان والاستبداد، فقتل واغتصب، وهجّر وشرّد وسجن واعتقل وعذّب حتى الموت، بمباركةٍ كونيةٍ تبعث على الغثيان. وظل الرفيق المبتهج يؤكد، في السهرة التي اقتحمها نبأ الانقلاب، على رفض التدخل الأجنبي في المنطقة، وهو نفسه صاحب مقولة الله محيي الجيش الروسي، باعتباره حامي حمى القومية وباعث أمجاد الأمة العربية. "هيك إخوانا الروس ليس لهم أي غرض، أو أجندات خاصة، فقط كرم أخلاق يا عمي".
ما حدث بعد ذلك يعرفه الجميع. كان تأكد خبر الفشل الذريع للانقلاب، لتكتسح صور أردوغان الفضاء الأزرق، وليشتعل الحوار بين مؤيد ورافضٍ، وليعبر الطرف الآخر بالطريقة الرعناء نفسها عن بهجةٍ بنجاة شخصٍ في اختصارٍ محزنٍ ترفع صور أردوغان في بلادنا المتعطشة دائماً للرموز، يحمل المواطن التركي علم بلاده، غير عابئ سوى بالوطن، ويذهب إلى الساحات العامة، لكي يساهم في عملية الإعمار من جديد، فيما يتواصل تناحرنا البائس غير المجدي.
AD06A645-8A0A-4B42-9292-5FC44B5D51C6
بسمة النسور

كاتبة أردنية، تحمل الليسانس في الحقوق، صدر لها ست مجموعات قصصية، وكتبت نصين مسرحيين. تكتب في الصحافة العربية منذ 1990، وتشغل موقع رئيسة تحرير مجلة "تايكي" المتخصصة بالإبداع النسوي.