إرشادات. غرامات. خوذات. إشارات سير. عبوة إطفاء الحرائق. إعلام مستنفر. ضوضاء عامة. مثل هذه الهستيرية الشاملة نشاط لبناني معتاد ودوري، تكرر مراراً طوال 25 سنة بعد الحرب، وفي مناسبات متنوعة، تشبه هذا الذي استيقظ عليه اللبنانيون أخيراً حين اكتشفوا أنهم كانوا يعيشون بلا قانون سير.
وهم ذهلوا حد فقدان اتزانهم الجماعي، مع أن لا شيء جديداُ في يوم تطبيق القانون المستعاد بتفاصيله الصغيرة، بالمفردات، بالحرف، من أيام أخرى أفاقت فيها الدولة فجأة على واجب منسي.
لكن اللبناني يستهوي لعبة التكرار. يعترض وينفذ مرغماً، ويعول على النفس القصير للسلطة التي لا شك ستخبو حماستها، وتتلاشى عزيمتها. ويعرف أنه لن يمر وقت قبل أن تعود الحال إلى ما كانت عليه.
لطالما حكمت علاقته بالسلطة قلة ثقة عميقة، تجعله يؤمن بأن تنفيذ القانون ما هو إلا ليؤذيه. وبحكم خبرته التي تجذرت طوال ربع قرن مع السلطات المتناوبة عليه، يعرف بأنها تتشابه في عدم إجادتها إدارة شؤونه، وأن لا خير يُرتجى منها.
وهو غالباً ما يهادن العواصف الموسمية هذه، ويعمل على تدميرها من الداخل. قانون منع التدخين في الأماكن المغلقة أحدث مثل. هل سينتهي قانون السير مثله؟ الأرجح أن يفعل ما بوسعه لأن يقضي عليه، عبر شد حبال مديد مع سلطة يوقن بأنها ستخسر في النهاية، لأن هذه عادتها.
هو أكيد بأن السلطة فاسدة وعاجزة وتفتقر إلى الأخلاق. وخلال ربع قرن من الفساد والعجز والتخبط وقلة الأخلاق، تحول لبنان إلى أسوأ مختبر للتجارب غير المبنية على أي أسس علمية، إن في السياسة أو في الأمن أو الاقتصاد أو المواطنة أو بناء المجتمع أو الصحة أو الخدمات، أو الإغلاق اللائق والمشرف للصراعات والحروب.
ربع قرن من التجريب أفقدت اللبناني أقل الأمل ببلد يكف عن الانزلاق على قشرة الموز ذاتها. كل العقد لا تحل من تشكيل حكومات إلى انتخاب رئيس. وما بينهما: الغذاء والكهرباء والماء والتعليم والاستشفاء. شبكة الطرق لن تشذ عن القاعدة، فخللها بنيوي. وثقافة التعامل معها نمت وأخذت مساراتها الرافضة للحيز العام والناظر إليه بصفته عدواً ومصدراً دائماً للرعب في بلد يعيش منطق غابة يستحيل الخروج من متاهاتها.
متاهات تلتف حول عنق اللبناني ولا يستطيع الفكاك منها. ويظل في اختناقه يرى كابوساً يسقط فيه بسيارته في هاوية، بينما شرطي يحرر له ضبطاً بسبب حزام أمان.
ونكاية بمصنع التجارب الفاشل هذا، والذي يجهل كيف سيصير دولة، يرفض وضع الحزام. ويأخذ الضبط مفكراً في أفضل سبيل للتهرب من دفعه. وينسى، خلال ذلك، أنه ما زال يسقط من شاهق.