أحيا فوز حزب العدالة والتنمية في الانتخابات التركية الأخيرة بنسبة 49%، الجدل من جديد حول العلمانية، فهي عند سائر الحركات والاتجاهات الإسلامية مرفوضة لأنها تفصل الدين عن السياسة، وهو ما لا يمكن قبوله بحال في تلك الأوساط.
ومع أن حزب العدالة والتنمية ليس حزبا إسلاميا، ولم يقدم نفسه في أدبياته ونظامه الأساسي وخطابه يوما على أنه كذلك، إلا أن بعض الحركات الإسلامية في العالم العربي تريد إلباسه ثوب الإسلامية عنوة، بإظهار نجاحاته وكأنها نجاحات للتيارات والحركات الإسلامية، متغافلة عن أن الحزب في إدارته للسلطة متقيد بالعلمانية المحايدة، دون أدنى انحياز لدين أو فكر أو مذهب.
النموذج العلماني الذي أعلن مؤسس الحزب رجب طيب أردوغان، أنه يدير شؤون الدولة بموجبه، أثناء توليه رئاسة الحكومة، تتمثل فكرته المركزية في أن السلطة تقف على مسافة واحدة من جيمع الأديان والمذاهب والأفكار، فهي تنحّي الأيديولوجيا جانبا في إدارتها لشؤون الدولة، وترى من واجبها توفير الحرية والحماية لجميع مواطنيها بصرف النظر عن ديانتهم ومللهم وفكرهم.
هذا النموذج من العلمانية متصالح مع الدين، فهو لا يعادي الدين وليس خصما له، بل في ظله ينعم أهل الدين - أي دين – بحريتهم الكاملة في ممارسة شعائرهم الدينية، ويحظون بحرية الحركة والدعوة المتاحة لجميع المواطنين بحكم القوانين النافذة في البلاد، فالسلطة في ظل هذا النموذج العلماني راعية لحقوق كافة المواطنين، وضامنة لحرياتهم المختلفة.
على النقيض من هذا النموذج كان نموذج العلمانية "الأتاتوركية" (نسبة إلى كمال مصطفى أتاتورك مؤسس الجمهورية التركية الحديثة) المستبدة أو المتوحشة، التي أعلنت خصومتها الشرسة للدين منذ بواكير قيامها، فمنذ أن ألغى أتاتورك الخلافة سنة 1924، وبدأ بمشروعه التحديثي، "ألغى كل المدارس والمعاهد الدينية، وألغى الشريعة الإسلامية، وأقر برلمانه قوانين مدنية وجنائية جديدة مستوحاة من القوانين الأوروبية، وأقر المساواة بين الرجال والنساء، ومنعهما من ارتداء الأزياء الإسلامية، بالإضافة إلى ذلك، منعت الدولة "الأتاتوركية" الأذان وترجمة القرآن، ثم ألغت في عام 1928، الإسلام كدين للدولة، وجعلت يوم الأحد يوما للعطلة بدلا من يوم الجمعة...".
فالعلمانية التي يدعو إليها حزب العدالة والتنمية، وتحدث عنها زعيمه أردوغان مرارا، لا تلتقي مع العلمانية الأتاتوركية إلا في الاسم فقط، مع اختلاف موقفهما الجذري من الدين، فعلمانية أردوغان علمانية ليبرالية محايدة، تحترم الأديان جميعها، وتضمن لها حرية الممارسة والدعوة.
أما علمانية أتاتورك فعلمانية متوحشة مستبدة، حاربت الدين وأخرجته من حياة الشعب التركي بالقوة، وألغت مظاهره وشعائره من الحياة العامة، فلا يليق بمن يتصدر لمحاكمة التجربة التركية المعاصرة عدم التفريق بين النموذجين، لأن عدم التفريق بينهما يوقع المرء في خطأ جسيم، يتمثل في التسوية بين المختلفات.
يقف الناظر في تجربة العدالة والتنمية بنموذجها العلماني الليبرالي، على صور تلك النقلة النوعية التي أحدثتها في المجتمع التركي، من حيث إطلاق حرية ممارسة الشعائر الدينية، وإحياء دور المدارس والمعاهد الدينية، والسماح بارتداء الحجاب في الجامعات، والإدارات العامة، والجمعية الوطنية، والمدارس الثانوية.
حينما سئل رئيس الوزراء أحمد داود أوغلو عن توجه الحزب لرفع الحظر عن ارتداء الحجاب في المؤسسات والهيئات الرسمية، أجاب بقوله: "عندما ألغينا حظر ارتداء الحجاب في الوظيفة العامة (عام 2013) لم يحدث أي نزاع"، وتابع: "إن من تريد ارتداء الحجاب تستطيع ذلك، ومن لا تريد لا ترتديه"، نافيا أي رغبة في التدخل في "أسلوب حياة" الأتراك.
في ظل نموذج علمانية حزب العدالة والتنمية، كان الأمر مختلفاً تماماً، فالحريات متاحة لجميع أبناء الشعب التركي، ليمارسوا شعائرهم الدينية، ويعلنوا أفكارهم ومذاهبهم على حد سواء تحت مظلة القانون، وكان لافتا توجه الحزب في سياساته إلى تفكيك "النسق الإكراهي" الذي انتهجه مؤسس الجمهورية كمال أتاتورك، والمؤدي إلى فرض حالة قطيعة مع إرث الخلافة العثمانية، تمثل ذلك التوجه باستصدار تشريعات وقوانين تلغي قوانين الحظر السابقة.
فحزب العدالة والتنمية بعلمانيته الحيادية، لا يهدف إلى فرض "نسق إكراهي" جديد يطبق فيه الشريعة الإسلامية، كما تتوهم قطاعات من إسلاميي الدول العربية، فهو منسجم مع ليبراليته المحافظة، ويحترم نموذجه الخاص في ممارسة العلمانية، ويدرك تماما أنه يستمد شرعيته من الشعب التركي، فحتى يحافظ على تلك الشرعية عليه أن يكون خادما لشعبه، ومحترما لخياراته وتوجهاته.
(الأردن)
اقرأ أيضاً: عن أردوغان، وبقية من الأخلاق في السياسة