ليبيا... بلاد الانقسام حول كل شيء

09 سبتمبر 2014
بدأت الانقسامات بعد محاولات حفتر الاستحواذ على السلطة(فرانس برس/Getty)
+ الخط -

يرى كثيرون في ليبيا، أن الانقسام العسكري في البلاد، بدأ رسمياً بعد محاولتَي اللواء المتقاعد، خليفة حفتر، "الانقلاب" (التعبير لرئيس الوزراء علي زيدان في حينها) على السلطة في مارس/آذار الماضي في المرّة الأولى، ثم في مايو/أيار، عندما حاولت قوات مختلطة من عسكريين وقبليين، الدخول إلى بنغازي تحت مسمى عملية "الكرامة"، لاستهداف "الجماعات الإسلامية المسلّحة"، ما فاقم حالة الفوضى والانقسام بين الليبيين، وأدى لسقوط المئات بين قتلى وجرحى في صفوفهم، إلى جانب التدمير الذي لحق بالبنى التحتية للبلاد. كما أثار هذا الوضع قلق دول الجوار، وتزايدت مخاوفها من امتداد الفوضى إلى داخل بلدانهم.

في هذه الأثناء، انطلقت عملية عسكرية قادتها مجموعات مسلّحة، من اثنتي عشرة مدينة، بالغرب الليبي، في مقدمتها مصراتة والزاوية وغريان وتاجوراء، بعضها تابع لرئاسة الأركان العامة الليبية. هدف العملية تمثل بإخراج قوات "القعقاع" و"الصواعق" و"المدني"، التي كانت تسيطر على وزارات الدفاع والداخلية ورئاسة الأركان العامة ومطار طرابلس الدولي ومقر جمعية الدعوة الإسلامية، وهي قوات تتهمها قوات "فجر ليبيا" بأنها من بقايا كتائب نظام العقيد الراحل معمر القذافي، ومؤيدة لانقلاب حفتر.

ويصف مراقبون الصراع الجاري في ليبيا، بأنه بين قوى شاركت بقوة في ثورة فبراير/شباط 2011، وبين أخرى تنتمي بعض مكوناتها إلى النظام القديم، بات يُرمَز إليها بمصطلح "الثورة المضادة" المدعومة من بعض الدول الاقليمية، والموجهة ضد التيار الإسلامي عموماً، وقد انتعشت في ليبيا بعد إسقاط الرئيس المصري محمد مرسي، وتضم اليوم خليطاً من "الليبراليين" ومن أنصار النظام السابق، ورجال أعمال جمعوا ثرواتهم خلال عهد القذافي.

ويضم تيار ثورة فبراير/شباط، وهو نسيج غير ملتئم في عمقه، تيارات إسلامية متشددة ترى في حفتر خطراً على وجودها وبقائها، لكنّها في نفس الوقت لا تؤمن بأي عملية ديمقراطية تنتقل من خلالها السلطة، بل ترفع شعارات الحاكمية لله. كما يضم إسلاميين معتدلين، كالإخوان المسلمين الليبيين، ووطنيين تصنفهم بعض الدوائر الغربية بـ"الوطنيين المتشددين"، ومقاتلين من مدن محسوبة على ثورة فبراير/شباط، ووصوليين ومنتفعين.

هذا المشهد قد يتطور في القريب العاجل إلى صراع من نوع آخر، ينطلق من الأزمة التقليدية بين التيارات الإسلامية والعلمانية، الحاضرين في بذور الأزمة الحالية. وتبدو زاويا الانقسام الليبي، معقدة، وشديدة التباين والتغيّر في الوقت الراهن. من جانب آخر، ينسحب الانقسام على المجموعات المسلّحة التي تملك القوة على الأرض وحققت نجاحات ميدانية تخولها السيطرة على غرب ليبيا بالكامل. وتؤكد الأنباء حصول توغل كبير في مناطق ورشفانة غربي العاصمة طرابلس، آخر معاقل أنصار حفتر وحلفائه، فضلاً عن تقدم ميداني لمجلس "شورى ثوار بنغازي"، الذي يضم عدة كتائب أغلبها إسلامية، في مقدمتها جماعة "أنصار الشريعة" بقيادة محمد الزهاوي والمصنفة "إرهابية"، وفق قوانين الولايات المتحدة الأميركية.

وبين شرعية سياسية، يعتبرها البعض منقوصة، بحوزة مجلس النواب الليبي المنتخب، والمنعقد حالياً بطبرق شرق البلاد، خلافاً لما نصّ عليه الدستور، وبين تمثيل المؤتمر الوطني العام المنتهية ولايته بمراسم التسليم والاستلام، تدور في فلك مجلس النواب وتؤيده، حكومة عبد الله الثني المستقيلة، وحزب تحالف القوى الوطنية، بقيادة محمود جبريل، والتيار المدني الذي نشأ قبيل انتخابات مجلس النواب نهاية يونيو/حزيران الماضي، بدافع منافسة الإسلاميين على الانتخابات في ليبيا. كما يدعم مجلس النواب بطبرق، اللواء المتقاعد خليفة حفتر، رغم عدم استجابته لقراره بوقف الاقتتال الدائر، وكتائب الصواعق والمدني والقعقاع في طرابلس.

مجلس النواب الليبي نفسه، لم يسلم من الانقسام، فقد غاب عن حضور جلساته، بحسب آخر التقديرات، قرابة ربع أعضائه، وأغلبهم من مدن الغرب الليبي الأكثر كثافة سكنية مقارنة بمدن الشرق أو الجنوب الليبي. واعتبر محللون أن عدم نقل جلسات المجلس على الهواء مباشرة أو، التصريح بالعدد الحقيقي لأعضاء المجلس الحاضرين في طبرق، أدخل المجلس في أزمة النصاب القانوني المفترض لاتخاذ قرارات حاسمة كتلك التي اتخذها.

ويستند المحللون على دعوة مجلس النواب، المفوضية العليا للانتخابات، اعتماد نتائج انتخابات الدوائر الفرعية، التي أجريت بالدائرة الثانية درنة، بصرف النظر عن عدم إجراء الانتخابات فيها، بسبب منع إسلاميين متشددين إجرائها، وهو ما ترفضه المفوضية حتى الآن، لعدم وجود حلول قانونية.

على صعيد آخر، تتجاذب المشهد الدولي تجاه ليبيا، بحسب متابعين، دول الجوار الست، الجزائر، وتونس، والسودان، ومصر، وتشاد، والنيجر. تدعو مصر، التي تترأس اللجنة السياسية الخاصة بليبيا، ضمن حلفها الإقليمي الذي يضم الإمارات والسعودية، إلى ضرورة التدخل عسكرياً في شرق البلاد، لتوجيه ضربات عسكرية للجماعات الإسلامية، في سرت وبنغازي ودرنة. وقد قامت بالفعل بتوجيه ضربة جوية لمعسكرات تابعة لقوات "فجر ليبيا" في العاصمة طرابلس أواخر أغسطس/آب الماضي، وفق صحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية.

أما الجزائر، فتنطلق من تجربتها الخاصة في التعامل مع الجماعات الإسلامية المتشددة، وترى في تيار الإسلام الوسطي السياسي قدرة على مواجهة التيارات المتشددة فكرياً وعسكرياً. كما أن الجزائر التي تترأس اللجنة الأمنية الخاصة بليبيا ضمن "السداسية"، لن تسمح لمصر، بحسب سياسيين جزائريين، بأن تتوغل فيما تعتقده مناطق نفوذها الحيوية بشمال وغرب إفريقيا.

لكنّ مراقبين، أبدوا خشيتهم من أن تعمل الجزائر، التي سترعى حواراً بين أطراف ليبية عدة منتصف سبتمبر/أيلول الجاري، على تحويل الصراع الليبي من صراع بين ثورة فبراير/شباط، وثورة مضادة، إلى حرب بين تيار إسلامي معتدل وآخر متشدد، وفق نظرية حرب الوكلاء الدولية.

من جهته، يرفض السودان أي تدخل أجنبي في ليبيا. فقد راهنت الخرطوم على دعم ثورة فبراير/شباط، وكل التيارات السياسية والعسكرية المؤيدة لها، في محاولة لخلق حليف استراتيجي لها في ليبيا، قد يساهم في حال توليه السلطة، بإخراجها من عزلتها الدولية. ويرى مراقبون أن السودان، بسبب تاريخه الطويل مع مصر، يعارض أي مشروع مصري، إذ أن السياسة المصرية على امتدادها التاريخي ترى في السودان جزءا من مصر، وذلك بعكس الموقف الجزائري، الذي قد يقبل أو يعارض السياسات المصرية.

وعن موقف دولتي جوار ليبيا من الجنوب، تشاد والنيجر، يجد المراقبون أنهما خاضعتين لمصالح سهلة مع ليبيا، تتمثل في الدعم المادي، وفق تطمينات تحصل عليهما الدولتان الفقيرتان من حكام ليبيا الجدد، ومصالح صعبة تتعلق بالديمغرافيا السكانية المتداخلة، بين قبائل طوارق وتبو. وقد منح نظام القذافي، بعد اندلاع ثورة فبراير/ شباط 2011، قرابة 400 ألف من تشاد والنيجر، جنسيات ليبية لمساعدته في القتال. ودخل هؤلاء إلى الجنوب الليبي، لكنهم بعد نجاح الثورة، لم يتحصلوا على الرقم الوطني الذي بموجبه يحصلون على حقوق المواطنة كاملة، ما دفعهم إلى تشكيل مجموعات مسلّحة، تدافع عن وجودها، وسط عجز تشاد والنيجر عن توفير حياة كريمة لهم.

يبقى أن دول جوار ليبيا عاجزة عن خلق توافقات سياسية، توقف الاقتتال الداخلي، سواء بالنظرة الأمنية المصرية، أو بجمع الأطراف المختلفة للحوار، وفق الرؤية الجزائرية. وعلى الأرجح، فإن من سيجمع كل الأطراف الليبية، لبناء معادلة سياسية توافقية جديدة هو الولايات المتحدة، التي يرى المحللون أنها مقبلة على التدخل في ليبيا، عبر استخدام عصا مجلس الأمن والقرارات الدولية، واستخدام قوائم تجريم الأطراف غير الموافقة على التفاوض، عبر المحكمة الجنائية الدولية، فواشنطن لن تسمح بتدهور الحالة الليبية أكثر من ذلك.