ليبيا.. اتجاهات الأزمة الأمنية في طرابلس
تشهد العاصمة الليبية، طرابلس، موجة جديدة من النزاع المسلح، تختلف في حدّتها ونطاقها عن الحالات السابقة منذ يوليو/ تموز 2014، فلم تعد التقسيمات التقليدية المعيار الأساسي لخلفية النزاع، لتتداخل عواملُ أخرى، تساهم في إعادة تشكيل السياسة في ليبيا، حيث تتلاقى غالبية المكونات العسكرية والسياسية على أن المجموعات المسلحة داخل العاصمة صارت تشكّل تهديداً مشتركاً، ومن ثم، فإن التحدّي الأساسي يكمن في مدى قدرة الأطراف الليبية على الخروج من أزمة السيطرة على العاصمة بإطار سياسي، ملائم للخروج من الحالة الانتقالية.
تصاعد أزمة الأمن
يمكن القول إن الفشل في تطبيق الترتيبات الأمنية، وفقاً للاتفاق السياسي، ساهم في نفاذ المجموعات المسلحة، كتيبة ثوار طرابلس، كتيبة النواصي، كتيبة أبو سليم وقوات الردع الخاصة، في مؤسساتٍ كثيرة في الدولة، حيث بسطت الكتائب الآربعة سيطرتها على المدينة، وتعيين مندوبين لها داخل المؤسسات الحكومية، بشكل وضع حكومة الوفاق تحت هيمنتها. وبينما قامت فلسفة الاتفاق على بدء تطبيق السياسات الأمنية من طرابلس، فإنه على العكس من ذلك كانت العاصمة المنطقة الرخوة في السياسيات الأمنية، سواء بسبب اندلاع النزاع بين حكومتي الإنقاذ الوطني والوفاق، ما أدى إلى وجود حالة فراغ أفسحت الطريق لنفوذ
المجموعات المسلحة في الأجهزة الحيوية في المدينة، وتمثلت العلامة البارزة في تكوين رئيس حكومة الوفاق، فايز السرّاج، جهاز الحرس الرئاسي بشكلٍ جعله أكثر اعتماداً على المجموعات المسلحة، ودمجها في مؤسّسات الدولة.
وتتصف مجموعات طرابس بأنها محلية، باستثناء "الرّدع الخاصة" التي تنتمي للتيار السلفي المدخلي، وينضوي عناصر في "الجيش الليبي"، وينتشرون في أنحاء كثيرة في ليبيا، وعلى مدى السنوات الماضية، لم يتمكّن أيّ منها من تكوين ولاءات خارج طرابلس، كما يتضمن تكوين اتجاه عام ضد مسلّحي طرابلس، يزيد من عزلتهم.
ومع تزايد نفوذ المسلحين في طرابلس، بدأت محاولاتٌ من الكيانات العسكرية في المنطقة الغربية، لإستعادة سطرتها، لكنها منذ نوفمبر/ تشرين الثاني 2017، واجهت قيديْن: ضعف التحالف بين مصراتة والزنتان وترهونة، واعتراض البعثة الأممية والدول الغربية على اندلاع حرب داخل طرابلس. وقد فشلت محاولات سياسيي مصراتة، في أبريل/ نيسان 2018، في إقناع البعثة الأممية والمجلس الرئاسي بنشر قوات مكافحة الإرهاب تحت قيادة كتائب مصراتة. وقد أحبط السرّاج هذه المطالب بإصدار قرار، في مايو/ أيار 2018، يقضي بإسناد مهام مكافحة الجريمة المنظمة والإرهاب لـ"قوة الرّدع الخاصة"، ما يعني بلوغ الأزمة الأمنية ذروتها، نتيجة زيادة تمكين كتائب طرابلس من المؤسسات الرسمية في العاصمة، وتضرّر الكيانات العسكرية ومدن المنطقة الغربية من تنامي ضعف المجلس الرئاسي وانقسامه.
ويمكن القول إن نمط اندلاع المعارك الحالية يختلف عن الحالات السابقة، فهي لا تجري بين سلطات حكومتين مختلفتين، وإنما تعمل على تجميع حلفاء لمراجعة مسار حكومة الوفاق، تنافرت مصالحهم في وقت سابق، للتضامن حول وقف تغلغل الجماعات المسلحة داخل مؤسّسات الدولة وحمايتها من التآكل والاندثار. وهنا، تكمن المشكلة في أن كتائب طرابلس تحمل مشروعاً لتفكيك الدولة، هدفها الأساسي بعثرة السلطة وإطاحتها، ويمكن القول إنها أقرب لنمط طفيلي، يعمل على إفشال المؤسّسات، وإحداث دوامةٍ فوضويةٍ لا تسمح بالتقدم نحو بناء الدولة.
السرّاج والمعضلة الأمنية
ويذهب فايز السرّاج، في 30 أغسطس/ آب 2018، إلى أن دخول بعض المجموعات المسلحة طرابلس يمثل تهديداً للسلم الاجتماعي، واعتداءً على مؤسّسات الدولة، وفي الوقت نفسه، حاول السرّاج التأكيد على مسألتين": الأولى، أن طرابلس مدينة مفتوحة لكل الليبيين، وهو بذلك يتجاوز الشعارات التي تمنع غير المقيمين من المشاركة في تقرير شؤونها السياسية والأمنية، حيث أوضح أنها كعاصمة للدولة تقع مسؤولية أمنها وسلامتها على عاتق كل الليبيين. الثانية، اتجه إلى تصنيف الكيانات العسكرية الشرعية، وتمييزها عن التي تعمل خارج القانون.
ولذلك اعتبر المعارك التي يخوضها اللواء السابع ـ ترهونة في جنوب المدينة بمثابة اعتداءٍ من مجموعات خارجة عن القانون على مؤسسات الدولة، ولذلك اعتبر محاولة بعض الكتائب دخول طرابلس عملاً غير قانوني. وفي هذا السياق، أفاد بأنه لا يوجد جسم تحت مسمى اللواء السابع، فقد تم حله منذ أبريل/ نيسان الماضي بالقرار 79/ 2018. ولذلك، لا يتوفّر الغطاء القانوني لمحاولاته الاشتراك في معارك طرابلس، بحجة الإصلاح والتطهير.
وعلى الرغم من حديث السرّاج عن حياد المؤسسات، وتجنيبها الصراع المسلّح، والوقوف على مسافةٍ متساويةٍ من مصالح الليبيين، فقد بدا أكثر انحيازاً للكتائب المسلحة، وتمكينها من جهاز الدولة. وكان لافتا أنه بينما تم إصدار قرار بحل اللواء السابع ـ ترهونة في أبريل/ نيسان 2018، أدمج السرّاج قوات الردع الخاصة كجهاز أمني، لتكون مهمتها حفظ الأمن الداخلي ومكافحة الإرهاب، وهو ما يحدثُ صيغا جديدة للصراعات، نتيجة استبعاد بعض المكونات الأساسية من الترتيبات الأمنية في طرابلس، وفرض وجود المجموعات المسلحة أمرا واقعا. ومن هذه الوجهة، تبدو تحيّزات السرّاج لتكوين تحالفاته مع كتائب طرابلس، بحيث تكون الركيزة الأساسية لسلطته في مواجهة محاولات إبعاده، وأيضا للتصدّي لظهور تحالفاتٍ أخرى، يجري الترتيب لها بين خليفة حفتر وؤجل الأعمال عارف النايض لتقاسم السلطة.
إنهيار وقف إطلاق النار
بعد اندلاع الاشتباكات في 27 أغسطس/ آب الماضي، ظهرت محاولاتٌ لعقد هدنةٍ. ولكن في ظل انخفاض مستوى الثقة بين الأطراف المنخرطة في معارك طرابلس، حيث يراها اللواء السابع (30 أغسطس/ آب 2018) وحلفاؤه أنها محاولة لاستفادة المجموعات المسلحة من وقف إطلاق النار، لترتيب لصفوفها وحشد الموالين لها. وهذا ما يمكن فهمه من قرار رئيس المجلس الرئاسي بإسباغ الحماية القانونية على الكتائب في طرابلس، وتكليفها بتوفير الأمن، وتسيير الحياة الطبيعية.
وفي سياق إدراك الكيانات العسكرية في غرب ليبيا لمخاطر اندلاع المعارك، من دون حسم الترتيبات الأمنية في طرابلس، فقد أعلنت عدم التزامها بالهدنة، ومن ثم، وهو ما يعد دلالةً على عمق التناقضات بين كتائب طرابلس والمكوّنات العسكرية الأخرى، وهو ما يعني استمرار المعارك حتى إعادة هيكلة الأمن في العاصمة، ويشجع تقدّم قوات ترهونة على الاستمرار في تجاهل تحذيرات السرّاج والبعثة الأممية، خصوصاً أنها تلقى تضامن مصراتة والزنتان.
ويتّسم الموقف المشترك لفرنسا وإيطاليا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة (30 أغسطس/ آب 2018)، تجاه أحداث طرابلس بالعمومية الشديدة، حيث غلبت عليه الطبعة الدبلوماسية للتحذير من عواقب المواجهات الدائرة، وتعريضها حياة المدنيين، لكنه لم يتضمّن الدعوة إلى اتخاذ إجراءات، سوى الدعوة إلى الحوار السلمي، والتلويح بأن المجتمع الدولي يراقب الوضع عن كثب. ويمكن القول إن هذه الصيغة تعتبر امتدادا للبيانات المشتركة بشأن ليبيا، سواء زادت حدّة لهجتها أو خفتت، فقد تركت النزاعات والصراعات الداخلية للفاعلين المحليين فيما كان تدخل الدول الأوربية والأمريكية في الصراع المسلح غير مباشر.
وفي هذا السياق، يمكن القول إن إصرار الولايات المتحدة، وبعض الدول الأوروبية، على دعم السرّاج حلا وحيدا لرئاسة الجهة التنفيذية، يساهم في تأجيج الصراع المسلح وترسيخ التناقضات، ليس فقط بإضعاف الأطراف، وعدم تمكينها من حسم الصراع، ولكن أيضا من وجهة أن السكوت على هيمنة الأيديولوجيا السلفية على جهاز الدولة واحدة من الصيغ التي تعمل على فتح آفاق جديدة للصراع.
تكتل مضادّ للمجلس الرئاسي والسرّاج
وبينما اندلعت الاشتباكات في طرابلس، تصدّى 80 عضوا في مجلس النواب، يدعمون الاتفاق السياسي، للأزمة الأمنية في طرابلس (30 أغسطس/ آب 2018)، حيث اعتبر أن المجلس الرئاسي، بوضعه الحالي، لا يحظى بالمشروعية القانونية، وهم في حكم المعزولين ومستشاريهم، وهو ما يتطلب تطبيق قرار مجلس النواب في 21 نوفمبر/ تشرين الثاني 2017 ، بحيث تصبح مكونةً من مجلس رئاسي برئيس ونائبين، وحكومة مستقلة تمثّل المكوّنات الليبية، وتكون مهمتها ترسيخ الأمن وتوفير الظروف الملائمة لإجراء انتخاباتٍ رئاسيةٍ وبرلمانية، لإنهاء المرحلة الانتقالية في أقرب وقت ممكن، وفق خريطة واضحة المعالم، يلتزم بها الجميع.
وبغض النظر عن الجدل بشأن الصيغة القانونية لهذه الخطوة، فإنها تستكمل دائرة عزل المجلس الرئاسي، كما تتلاقى مع الاتجاه السائد على مستوى ليبيا، والذي يرى أن فايز السرّاج يفتقر القدرة على حماية المؤسّسات، وكبح تطلعات المسلحين، غير أن أهمية موقف النواب في أنها جعلت المجلس الرئاسي غير مرغوب به على مستوى ليبيا، يوفّر هذا الوضع الإطار السياسي الداعم لإعادة هيكلة النظام الأمني والسلطة التنفيذيةْ.
وفي سياقٍ متزامن، أصدرت كتلة نواب إقليم برقة في مجلس النواب بيانا، حمّلت فيه المجلس الرئاسي ورئيسه والمجلس الأعلى الدولة، وكل الداعمين للاتفاق السياسي، مسؤولية الأحداث التي تشهدها طرابلس، لكنه، فيما يتعلق باتخاذ إجراءاتٍ لتحييد الأزمة الأمنية، اتّجه نواب برقة إلى اقتراح نقطتين؛ نقد المقرّات الحكومية إلى مدينةٍ أخرى لا تخضع للمليشيات، كان لافتاً تجنب نواب برقة الإصرار على أن بنغازي هي المقر البديل لطرابلس، كما تبنّوا الدعوة إلى بدء انعقاد لجنة الحوار، للنظر في تعديل الاتفاق السياسي، وتوسيع مشاركة أعضاء مجلسي الأعلى للدولة والنواب. ويعكس هذا الخطاب نزوعاً نحو التقارب لحل الأزمة السياسية، وهو ما يعتبر تطوّراً نوعياً في إدراك التحدّيات التي تواجه الدولة، ولعل التلاقي مع مواقف الكيانات السياسية في غرب ليبيا تجاه المجلس الرئاسي يساعد في تكوين أرضيةٍ مشتركةٍ للاقتراب من الحل السياسي.
وتفيد البيانات الصادرة عن مجالس عسكرية لمدن المنطقة الغربية، منها ثوار غريان في 29 أغسطس/ آب 2018، بأن المجلس الرئاسي يفتقر للفاعلية، وصار جزءا من المشكلة، وقد دعا البيان إلى إخلاء العاصمة من المجموعات المسلحة، وتقديم الدعم للمؤسسات في العاصمة.
وتكتمل دائرة هذه الكتلة بموقف المجلس الأعلى للدولة (30 أغسطس/ آب)، حيث عبر عن تأييده الاتجاه العام لمراجعة الأوضاع الأمنية، وخصوصاً ما يتعلق ببياني النواب داعمي الاتفاق السياسي، وكتلة نواب إقليم برقة في مجلس النواب، فيما يتعلق بإعادة تشكيل المجلس الرئاسي، بسبب عجزه عن تسيير الشؤون الاقتصادية والأمنية. ولهذا أعلن عن استعداده لاستئناف
جولات الحوار، طبقا للاتفاق السياسي، للبحث عن آليات اختيار سلطة تنفيذية جديدة. وتكمن الدلالة الأكثر أهمية في هذا الجانب في أن الكتلة التشريعية تتقارب بشأن ضرورة إنجاز الترتيبات الأمنية في طرابلس، تمهيدا لتعزيز المسار السياسي، ودرء خطر المجموعات المسلحةً.
وعلى الرغم من افتقار هذه المحاولات للابتكارية، فإنها تزيد من مساهمة المكوّنات المحلية في صنع السياسة في ليبيا، خصوصاً ما يرتبط بتناسق المطالبة بتشكيل المجلس الرئاسي، وتجاوز تحذيرات بعثة الأمم المتحدة، وهي، على أية حال، تعمل على تكوين أطر سياسية جديدة، وتحالفاتٍ يمكن أن تشكل أرضيةً للتلاقي بين أطرافٍ لم تكن تقبل الجلوس على مائدة واحدة في السابق، لكن التحدي الأساسي يظلّ متمثلاً في فقر التصورات بشأن الخروج من الحالة الانتقالية.
وبشكل عام، يبدو أن النزاع المسلح سوف يشكل الآلية الأساسية، والحل الأخير للسيطرة على العاصمة، حيث تتباين مواقف الأطراف المختلفة داخل طرابلس وخارجها. ولعوامل مختلفة، هناك قلق من تكرار تجربة الحرب الأهلية في بنغازي، بسبب التسليح الجيد للمجموعات السلفية، بشكلٍ يضعف فرصة توفير مسار سياسي، لصياغة بدائل الصراع، غير أن حالة التململ العام تجاه تدهور الوضع الأمني في طرابلس سوف يعزّز التقارب والوعي بأهمية دعم المسار السياسي.