ليالي الأنس في بيروت الباردة

12 مارس 2016
مشهد لبيروت (Getty)
+ الخط -
النهار غير محدد اللون وبارد بقسوة، ليس غامقًا ولا فاتحًا، بل أكثر غموضاً من الرمادي، جاء الليل فحسم الجدل، الليل أسود دون مواربة أو حذلقة. بردانة تسعى إلى "بردانِ" كنت، أسمع أسمهان بسُكْر، غائصة في دوامة صوتها، و"كاتمة غرامي، وغرامي هالكني”. وكما جاءت العربة القديمة لتقلّ غيل (أوين ويلسون) إلى باريس العشرينيات في فيلم "منتصف الليل في باريس"، سحبني صوتها إلى بيروت الخمسينيات والستينيات. كنت أراني بشعر قصير، أرتدي فستاناً أسود، عنقه مكشوف، خصره محدد، ويتسع عند الأرداف، ليصل إلى الركبة، دون أن أنسى الحلي طبعاً، الحَلَق، وعقد اللولو، والأسوارة والخواتم.
أجوب الشوارع عند منتصف الليل، أشاهد العربات القديمة، والمتاجر المقفلة، والمقاهي، وصوت عبد الوهاب من بعيد يسأل: “أيمتى الزمان يسمح يا جميل، وأسهر معاك على شط النيل؟ نعم، أيمتى؟ وأيمتى حتعرف أيمتى؟ أني بحبك انت؟”.
البيوت في تلك البيروت، كانت مضاءة ولها رائحة، كنت أتأملها من تحت، أرى فقط ما تسخى لي به الستائر المواربة: "الثريات، اللوحات، صورة العرس، صورة الجد، السقف العالي، الباب الخشبي الطويل، الشرفات الضيقة، والشبابيك المرتفعة”. وكان هناك عالم بعيد وكبير، ولكنه يتضاءل ليصير بحجم راديو، كانت تلك أيام عز الراديو.
لمَ الكحول إذا كان ثمة صوت؟ الصوت، هذا الذي يستنهض الرقص من إغماءاته، بأبي وأنت وأمي.. أيها الصوت.
مرة صفنتُ في هاتف قديم معروض على واجهة متجر لبيع المقتنيات القديمة، وصرت أتخيل الأرواح التي تحرس أصوات أصحابها داخل هذه السماعة. لو أنني فقط أرفع هذه السماعة، فأسمع تلك الحواريات، لكنت كتبت التاريخ بنفسي!
ثُريات قديمة تتدلى من سقف المتجر نفسه، وطاولة طعام مع كراسيها الأربعة، صور لمحمد فوزي، وشادية، وصباح، وفيروز، ورشدي أباظة.. وملصقات دعايات "البيبسي" و"الكوكا كولا" والسيارات القديمة..
وفجأة، خرج صاحب المحل من كهفه يزعق: "عمهلك، عمهلك رح تخبطي السيارة”! في الواقع، كانت خلفي صديقتي التي تعلمت القيادة حديثاً وهي تحاول ركن سيارتها، وقد أوشكت على صدم سيارة مركونة خلفها.
يومها، دخت وزاغ نظري، وأنا أقيس الفستان تلو الآخر في مخزن لبيع الثياب والحلي العتيقة (فينتاج ستور). يا إلهي ما أقدمَني، قلت لنفسي. لا ينقصني سوى تسريحة آفا غاردنر أو غريتا غاربو، ولمسات السيد ماكس فاكتور وظلاله فوق عيوني!
المهم، هو أنني اشتريت وشاحاً مخمليّاً أحمر، وكنت واثقة أنه ارتُدي سابقاً على عشاء رومانسي، إذ لا يمكن لوشاح كهذا إلّا أن يؤجج الحب في قلوب من رأته أعينهم، مستحيل!
يومها، أيضاً، ضاع قميصي في الزحمة، وكدت أشتري ثوباً من العصر الفيكتوري، لو لم تجده صديقتي بين ثياب المخزن! يا لهول ما فاتنا من ضحك، لو أنني خرجت إلى الشارع كواحدة من شخصيات تشارلز ديكنز.
صمت! سكت الصوت، برد، وعتمة.
النوستالجيا اكتئاب. الموت الكثير، والمصائر المجهولة، والانتظارات البلا قرار.. هي أسباب رحيلنا إلى الوراء، والبحث فيه عن فردانيتنا الضائعة بين الأقدام. الحنين، بدون شك، هو الخيار الأكثر جبناً.
نهضت إلى محوّل الكهرباء كي أعيد الضوء، فالصوت، فالدفء. كنت متحجرة كتمثال بارد، وملتصقة ببعضي، وأفكر بطقوس أكثر أسطورية في شراء الأشياء والحلي والثياب، خاصة تلك التي سألبسها في مواعيدنا، فأنا لا أريدها، هي التي ستعثر يوماً على مقتنياتي في متاجر المقتنيات العتيقة، أن تبلغ ما حدث مهما شطحت مخيلتها، فليالي الأنس في بيروت أحلى من الخيال بكثير.

اقرأ أيضاً: أريد أن أكون بلا شكل
دلالات
المساهمون