لعلّه أرفع وأشهر اسم من جيله في إسبانيا، في حقل الترجمة من العربية إلى الإسبانية وبالعكس، سواء كمترجم أدبيّ بلغ حصاده حتى الآن 26 كتاباً، أو كمعلّم ومدير لأعرق مدرسة للترجمة في أوروبا على الإطلاق: "مدرسة طليطلة للمترجمين". تلك المدرسة التي خرجتْ من بين جدرانها كبرى الترجمات في العصور الوسطى، لتؤسّس مهادَ الحضارة الأوروبية بشكلها الحاليّ.
- تعمل مُديراً لأعرق مؤسسة ترجمة في أوروبا، حدّثنا عنها وعن طبيعة عملك وعن دورها في تخريج المترجمين؟
كتبَ المؤرّخون أنّ مدرسة طليطلة للمترجمين من أقدَم مدارس الترجمة في التاريخ الأوروبيّ وأهمّها وأعرقها. وبالفعل، أطلِق هذا الاسم على واقعٍ تاريخيّ ممتدٍّ بين القرنين الثاني عشر والثالث عشر ميلادي، أُنجِز في إطاره بصورة منتظِمةٍ، تحت رعاية مطرانيَّة طليطلة، ورعاية ألفونسو العاشر، العديدُ من الترجمات لنصوصٍ عربية تحمل قسماً من العلوم والفلسفة الإغريقية والفارسية والهِندية التي وصلتْ إلى أيّامنا هذه. وقد تَأَتَّى هذا الوضع عندما سقطت طليطلة، وهي أوّل مدينة إسلامية أندلسية كبيرة تقع في أيدي المسيحيين. إذ حين استولى عليها الملك القشتالي ألفونسو السادس سنة 1085، وجَدَ مكتباتِها زاخرةً بالمؤلّفات العربية، التي ضمَّت في ما ضمّت بقايا مكتبة الحكم الثاني، الحكم المستنصر بالله، تاسع أمراء الدولة الأموية في الأندلس، التي اشتَهَرت في قرطبة بكتبها الأربعمئة ألف. بفضل حركة الترجمة من تلك النصوص العربية إلى اللاتينية والإسبانية، انتقلت الأرِسطية (نسبة إلى أرسطو)، وبشكل خاصّ الرُشدية (نسبة إلى ابن رشد)، إلى أوروبا. وقد أثّرت أعمال أرسطوطاليس في تفكير سان توما (توما الإكويني)، وأجَّجت الجدال بين الفلاسفة واللاهوتيين في جامعة باريس. كان عطاء مدرسة طليطلة مهمًّا بشكل خاص في الطبّ والرياضيات والفلك والتنجيم. ففي الرياضيات، على سبيل المثال، شاع استعمال النظام السِّتُّونيّ والصِفر. وساعدَتْ الصفائحُ الألفونسية، كوبرنيك على تطوير نَظرياتِهِ حولَ مرْكزيّة الشمس. لم ينقُل المترجمون النصوصَ فقط، بل نقلوا أيضاً المنهج التجريبي المقتبِس عن المسلمين: التجربة والتأمّل والقياس، الذي كان أساسياً في تطوّر العلوم الحديثة والنهضة الأوروبية. وضعتْ مدرسة المترجمين بترجماتها ومناهجها وإحساسها، الأُسُسَ التي ستُؤدّي بعد قرنين من الزمان، وبدعم من المطبَعة، إلى قيام النَّهضة الأوروبية.
- لم تحدثنا بعدُ عن دورها المعاصر في تخريج المترجمين وفي تواصل الثقافتين العربية والإسبانية.
اليوم مدرسة المترجمين هي مؤسسة للأبحاث والترجمة وتكوين المترجمين، تابعة لجامعة كستيا ـ لامنتشا العامّة. من بين أهدافها، تسعى إلى إحْياء مدرسة طليطلة القديمة روحاً وجسدًا، وتهدف إلى أن تتحوّل إلى فضاءٍ حقيقي للقاء والحوار حول الحركات الفكرية وتدفّق الأفكار. كما تسعى إلى إيجاد شبكة من المؤسّسات المتوَسّطية للكتابة والترجمة والنشر، وإلى تكوين جيل جديد من المترجمين من العربية إلى الإسبانية. وأرغب هنا في الإشارة إلى أنّ أكثر من ألف وتسعمئة طالب من جامعات عربية ومن جميع أنحاء البحر الأبيض المتوسط درسوا عندنا، ضمن دورة سنوية متخصّصة في الترجمة من العربية إلى الإسبانية. وعلى رأس كلّ ذلك، تسعى مدرسة طليطلة إلى دعم الترجمة من العربية إلى الإسبانية لتقريب القرّاء والباحثين الإسبان من الفكر والأدب العَرَبيّيْن المتَمَثّليْن في المؤلَّفات البارزة. وفي ما يخصّ إنجازاتها في مجال الترجمة، يمكننا أن نذكر مثلاً أنّه خلال السنوات العشرين الأخيرة ترجمنا وأدخلْنا في السوق التجاري للكِتاب الإسباني، عدداً كبيراً من الأعمال الأدبية والفكرية العربية، الكلاسيكية منها والمعاصرة، بما يقرب من مئة كتابٍ، مساهمةً بذلك في إعطاءِ نظرةٍ جديدة عن العالم العربي عند القرّاء الإسبان وقرّاء أميركا اللاتينية. وكذلك نظّمنا عشرات اللقاءات والمؤتمرات الدولية حول الترجمة والعلاقات الثقافية المتوسطية. بالإضافة إلى تنظيم دراسات عُليا في الترجمة العربية الإسبانية، ووصلت إلى دورتها التاسعة عشرة على التوالي: حوالي ألف وتسعمئة متخرّج من الدول العربية، كما قلت سابقاً.
- ماذا تعني لك الترجمة من العربية إلى الإسبانية؟
عمل الترجمة يتطلّب حبًّا كبيرًا للغة التي نترجِم منها واللغة التي نترجِم إليها. فاسْمح لي أن أشهد أنني أعشق لغتي الإسبانية وأحبّ اللغة العربية. كتبتُ مَرّة أنني أحب العربية في دكان الحلاق وعند سائق التاكسي وعند المعلّمة في الاستراحة. أحب الناس الذين يجسّدون اللغة العربية حين يتكلمون، وأحب العرب الذين لا يُتقنون قاعدة العدد، ويجهَلون قاعِدة كتابة الهمزة. أحب حرف النون، وسورة النور، والناي والشاي بالنعنع. أحب خشونة العامية المغربية، وموسيقى اللهجات الشرقية، وعبارة "شْلونك" العراقية. وأحب الأربعة آلاف كلمة من أصل عربي في اللغة الإسبانية. لكنني لا أحب لغة التطرّف الهَمَجِية. ومع كلّ هذا، فمرّات كثيرة شعرتُ بعدم الرضا أو عدم الأمان عند تعاملي بالعربية. صدّقْني إذا قلت لك إن من يدرس اللغة العربية يحبّ التحديات.
فالترجمة من العربية إلى الإسبانية أمرٌ مهمّ جداً للطرفين، لأننا ننظر إلى الترجمة باعتبارها "سعياً إلى الآخر الذي هو أنا"، بحسب كلمات أبي حيّان التوحيدي. ما ينبغي علينا كمترجمين هو أن نسعى جميعاً ونُرغِم اللغتين العربية والإسبانية وغيرِهما على استضافة الغريب، الآخر الذي هو أنا. قال فيدريكو غارثيا لوركا ألف مرّة ومرّة إنّه بِسبب ولادته في مدينة غرناطة كانت لديه قدرة خاصّة لفهم المتشرّدين في العالم، لفهم الموريسكيّ والسافارديم الذين يعيشون في داخله، ولهم مكانة في عروق جميع الإسبانيّين، قديماً وحديثاً. ليست اللغات والهويات والثقافات سوى أُحجية أو فُسيفِساء غير متكاملة وفي تحوّل دائم.
- ما هي الصعوبات التي واجهتك وتواجهك كمترجم؟
نحن اليوم كمترجمين نعدّ أنفسنا محظوظين لأننا نمتلك أدوات ووسائل متعددة، تساهم بدورها في تسهيل عملِنا. أقصد هنا المعاجم والموسوعات والمكتبات، وذلك أيضًا عن طريق الإنترنت والتشات والدورات في الترجمة والدراسات حولها، بالإضافة إلى إمكانية التواصل مع المؤلّف أو مع الناطقين باللغة العربية، من دون أن ننسى الاستعانة بـ"السيد جوجل"، كما سمّاه البعض. لكن بالرغم من الاستعانة بتلك الأدوات، فإن الترجمة بحدّ ذاتها ليست وظيفة أوتوماتيكيّة مجرّدة من الصعوبات. فالترجمة، أو على الأقل الترجمة الأدبية، لا تعني ترجمة الكلمات ولا حتى الجمل. يمكن لأي إنسان يتحدّث بلغتين وباستعانته بالقاموس أو بدليل للترجمة أن يقوم بتلك العملية، لكن القضية لا تكمن هنا. فنحن لا نترجم الكلمات ولا حتى الجمل، بل نترجم ما أرادت أن تقولَه تلك الكلمات وتلك الجمل. وهذا لا يساوي ذاك.
كما قال الأديب خورخي لويس بورخيس، المعاجم ثنائية اللغة، ليس فقط أنها لا تصل إلى المعنى المحدّد، بل لأنها تتجاهل القاعدة الثقافية والمفهوم الذي قد تحويه الكلمات: مثلًا طائر البوم يرمز باللغة العربية الى التشاؤم، أمّا بالإسبانية فيرمز إلى المعرفة، والطفل "يوسف" ليس هو الطفل "خوسيه"، وكلمة "غابة" بالإسبانية دلالاتها مختلفة عن دلالات كلمة "غابة" بالعربية. والسؤال هنا، هل من الممكن ترجمة الثقافات؟ غالباً، ما يقوم به المترجم هو "أقلمة" تلك الثقافات وتبسيطها، وجعلها قابلة للاستيعاب لكي تصل إلى القارئ من دون عنف ولا استغراب. في الحقيقة، ومثلما كتب الأكاديمي والمترجم الإسباني ميغيل ساينث، أنه عندما نتعامل مع الثقافات، علينا أن نتشاركها وننقلها كما هي على طبيعتها، إذ إننا بذلك نقوم بعرض مدى رؤية الآخر وجعله يصل إلى ما هو مختلف عنه، ما يتيح للقارئ إمكانية الغوص في أعماق ثقافة الآخر. هذا من ناحية المضمون، أما من ناحية الشكل، فبحسب رأيي أنه في حالة الشعر، يكون الشكل في كثير من الأحيان هو المضمون، فيجب مراعاة ذلك الجانب الى أبعد حدّ. وإذا كان الأمر يتعلّق بعمل نثريّ، أحرص على أن تكون قراءة النصّ باللغة الإسبانية الأكثر طلاقة، ولكن، بالتوازي مع ما يسمح به التركيب النحوي للنصّ الأصلي. الوصول إلى هذا التوازن وإلى نقطة الوسط بين ما هو غريب وبين ما هو مألوف، يعتبر التحدي الأكبر الذي يُواجه المترجم.
- هل المترجِم هو وسيط أم مؤلف ظلّ أم مبدع ثان للعمل المترجم؟
إن المترجم هو المؤلّف لترجمته، حسب ما جاء في نص اتفاقية برن عام 1886. وفي حالة التشريع الإسباني، فإن ذلك يحدّده قانون الملكية الفكرية منذ عام 1987. فالمترجم هو المؤلّف لما يترجمه. هذا ما يؤكده تاريخ الكُتّاب والمُفكرين، على سبيل المثال الفيلسوف والكاتب نوفاليس الذي يؤكّد أن كلّ أدب هو ترجمة. أو كما كتب أوكتافيو باث أن الترجمة هي وظيفة متخصّصة من الأدب. وفي الحقيقة أن المترجم هو دائم الحركة بين قُطبين: الأوّل هو تواضعه الطبيعي كخادم، والثاني هو الفخر الناتج عن وعيه كمُبدِع. فمجدَّداً أقول إن مهمة الحفاظ على التوازن بين القُطبين، تعدّ من أصعب التحديات التي يمرّ بها المترجم.
- هل من مشاريع لديك تنتظر النور مستقبلاً؟
لحسن الحظ، المشاريع دائماً كثيرة. وكمدير لمدرسة المترجمين، أرى أنه من الضروري العمل على تشجيع الترجمة من العربية إلى الإسبانية للعديد من الأعمال الشعرية التي تعود إلى العصر العباسي، والشعر الشرقي الكلاسيكي بشكل عام. وأرى أيضاً أنه من الضروريّ فتح قنوات جديدة لترجمة الدراسات والأبحاث، والمسرح وأدب الأطفال والشباب العرب. على المستوى الشخصي، بدأت للتوّ بترجمة مخطوط يعود للقرن الثاني عشر، وهو عبارة عن مقالة في الطب والسحر، تقع في ما يقرب من مئتي صفحة. وممّا لا شكّ فيه أن هذا المشروع سيشغلني على الأقل خلال السنتين القادمتين. بالإضافة إلى العمل على إعداد مختارات من شعر أبي العلاء المعري وبعض الشعراء المعاصرين. وهي مشاريع دائماً حاضرة في ذهني.
- ما بين أوّل كتابٍ ترجمته، وآخر كتاب، كيف تنظر لمسيرتك الآن؟
بين أوّل كتاب وآخر كتاب ترجمته، هناك ما يقرُب من 26 عملاً، وفيها ترجمت الرواية والشعر والسيرة الذاتية وكتب الأطفال. من ناحية أخرى وأثناء هذه الفترة، قمت بإعطاء عدد لا بأس به من المحاضرات في الترجمة، ومن خلالها تعلّمت الكثير من طُلابي وطالباتي. بالرغم من ذلك، ففي كلّ مرة أبدأ بترجمة جديدة، يتملّكني الشعور بعدم الثقة وقلّة الحيلة، مثلما تملّكني عند ترجمة أوّل كتاب. في الحقيقة، أنا لا أكترث لذلك وقد لا يؤلمني، فهذا ما يجب أن يكون الأمر عليه، إذ لا توجد في حقل الترجمة معادلات أو قواعد بعينها. على المترجم أن ينتابه الشعور بالشكّ عند كلّ حلّ يختاره، فيرجع إلى نصّه المرّة تلو المرّة. لا أقوم بتقديم الترجمة من دون مراجعة كاملة لأربع وحتى ست مرات، من دون أن أعرضها على أحد ناطقي اللغة الإسبانية، ممّن ليست لديه المعرفة بمزايا اللغة العربية وخفايا ثقافتها. وحسب ظنّي، فإنّ المؤلّف ينتابه شعور مشابه. أقوم بالمراجعة المرّة تلو المرّة ولو أنّني على يقين دائماً بأنّ النسخة الأولى هي الأفضل. الحدس والخبرة هما أفضل ما يملك المترجم من أسلحة. نحن المترجمون نمتلك النوتة الموسيقية، وعلينا أن نقوم بعَزْفها. الأمر يبدو سهلاً، لكن علينا ألا ننسى بأن كلّ نصّ يحتمل أشكالاً عديدة لترجمته، وكلّها صحيحة ومقبولة على فرض أنها تتوافق مع المعايير التي سبق أن تقيّد بها المترجم.
- ما أكثر عمل أتعبك في ترجمته؟ وما أقرب عمل إلى قلبك؟
ربما بسبب كونه أوّل عمل، فهو أحد أكثر الأعمال التي تركتْ أثراً في داخلي، ألا وهو ترجمة ديوان "أنشودة المطر"، لبدر شاكر السياب. وأيضاً استمتعت كثيراً خلال ترجمتي لـ"البئر الأولى"، لجبرا إبراهيم جبرا، وهو آخر عمل قمت بترجمته بالتعاون مع ماري لوث كومندادور. وأعتقد أن الترجمة التي قد تسبّب لي التعب وحالةً من الرضا معاً هي ترجمة اللزوميّات للمعري، فعصرنا الحاضر هو أحوج ما يكون لمثل ذلك المفكّر.
- كيف تنظر للترجمة والمترجم، في زماننا هذا؟
كما قيل مراراً، الترجمة هي جسرُ التلاقي وإزالة الحواجِز بين اللغات والشعوب والثقافات والأديان. الترجمة هي من أقدم المهن وأهمّها في تاريخ الإنسان. لكنَّني لم أُصبح مترجماً لسبب من هذه الأسباب. أصبحتُ مترجماً لأنني اكتشفتُ يوماً لغة العرب وأحببتها بفضل أُستاذتي الأولى وكان عمري ثماني عشرة سنة. أصبحت مترجماً لأنني أحبّ لغتي الإسبانية غايةَ الحب. ولأنني كلّما ترجمت كتاباً جديداً أعيش حياة مضافةً لحياتي العادية بما فيها من متعة ومشقّة. وأصبحت مترجماً لأنني أوقن، بحُكْم المعرفة، بأن الثقافة العربية لديها كثير ممّا تقوله للثقافة الغربية. كثيرٌ هو الفكر والأدب العربي الذي يتطلّب الترجمة، وكثيرة هي الحقول لنحصدها. ولعلّ وجود مدرسة طليطلة للمترجمين الحالية، يمثل أحسن حافز على ذلك الدربِ الذي طالما يَسلُكه المرءُ وحيداً منفَرِدًا.
- ما هي طريقتك في الترجمة؟ وكيف تختار هذا الكتاب دون ذاك، ولماذا؟
عمل الترجمة يحتاج إلى تكوين وتخطيط وجهد وصبر ومال. قبل أيّام سمعت صاحب دار نلسن للنشر في لبنان يقول إنّه في عملية الترجمة يكون اختيار الكتاب مهمّاً، واختيار المترجم أهمّ، وأهمّ الأهمّ هو اختيار المؤسّسة التي يمكن أن تدعم الكتِاب أو تشترِك في تمويله من دون أن ترهق دار النشر بالأعباء والشروط. وبالفعل، عملية الترجمة تتطلّب منّا أن نتّحد في ما بيننا. والمعيار الرئيس يتعلّق بالجودة الأدبية للنصّ الأصلي. وبذلك يتحتّم علينا أن نكون دائمي التشاور في ما بيننا كمؤلفين ومترجمين وناشرين ومتخصصين من عرب وغير عرب. ومن جانب آخر، نبحث عن مؤلفات تأسيسيّة ضمن نوعها، وضمن الأدب أو الفكر العربي. إذا كانت تلك الأعمال قد تُرجمت إلى لغات أخرى أم لم تترجم، فهذا شيء ثانوي. غير أن الاختيار الجيد للمؤلّف والعمل الأدبي والمترجم ليس كافياً كما سبق وقلت. فمن المهم إيجاد دار النشر التي لديها التصنيف المناسب لذلك العمل، بالإضافة إلى التوزيع المحترم كي يخرج هذا العمل من بيئته الأكاديمية ويصل إلى القارئ العادي، كما هو الحال بالنسبة للأدب الانجليزي أو الألماني، على سبيل المثال. هذا، ومن المهم السعي إلى تقديمه إلى جمهور القرّاء في الصحف والمجلات. وتلك المهمة تتطلّب المثابرة والعمل الجيد. ومدرسة طليطلة للمترجمين يقع على عاتقها الاستمرار على هذا النهج خلال العقود المقبلة، تمامًا مثلما قامت به حتى الآن. تلك هي مهمّتها ضمن العديد من المهامّ الأخرى.
- يقول صالح علماني إن "الترجمة بدأت تتحوّل إلى جنس أدبي قائم بذاته، فالمترجم صار يعدّ مؤلفاً للترجمة، كما تعرّفه قوانين وأنظمة الملكية الفكرية". ماذا تقول أنت؟
إنني موافق تماماً مع المترجم الكبير وصديقي العزيز صالح علماني. الترجمة جنس جديد يعبر بطريقة عمودية جميع الأجناس. في هذا الصدد قال الفيلسوف الإسباني خوسيه أورتيغا إي غاسيت، إنّ النص المترجَم لا ينتمي إلى جنس النصّ الأصلي. وفي ما يتعلّق بالمترجم فهو حرفيٌ يختبئ خلف كلمات المؤلفين من أجل توسيع صداها، بينما يبقى هو وراء الستار في العتمة وحيداً. فهو من حين إلى حين يشكّ في احتمال وجود قرّاء لعمله المخلص والدقيق. وكثيراً ما يتساءل عن وجود مَن يقدّر كل ذلك الجهد المبذول. إلا أنه في يوم من الأيام يحدث ما لم يكن يتوقعه: يصِل إليه خبر تلقيه جائزة خادم الحرمين الشريفين العالمية للترجمة في مجال جهود الأفراد اعترافاً بعمله المتواضع. حينها يشعر بالجميل العميق الصريح لمجلس أمناء الجائزة، ويتذكّر جميع الأساتذة الذين علّموه اللغة العربية، وكلّ المؤلفين الذين ترجمهم.
- زرت فلسطين المحتلة أخيراً، ما هي انطباعاتك؟
كثير وجميل هو ما قدمتْ لي اللغةُ العربية خلال العقود الثلاثة الماضية. وآخر ما قدمتْ لي العربية هي هذه الزيارة. فلأوّل مرة عبرتُ الجسر ودخلت القدس وبيت لحم ونابلس وأريحا ورام الله ومدناً أخرى. لِأوّل مرة أنا في فلسطين. هذا السفر انتظرته طويلاً. وأعرف اليوم أنه بالنسبة لقلبي من أخطر الأسفار التي بادرت إليها وقد أبادرها ثانية في حياتي. وما كانت مهمّتي في تلك الرحلة؟ لقد ترجمتُ وتعرّفت إلى عدد لا بأس به من الشعراء والكتّاب الفلسطينيين في الشتات، ولكنني كنت أنشد التعرّف أيضاً إلى الكتّاب والشعراء داخلَ فلسطين. تلك كانت مهمّتي. وكنتُ أودّ كذلك أن أشعر معهم، وأن أشاركهم الحزن والوجع والقهر الذي يسبّبه الاحتلال في حياتهم اليومية العادية، كما كنت أودّ أن أرى وأن ألمس واقعاً تنكره دول وحكومات عديدة. الواقع الذي رأيته هو أن فلسطين تحيا وتعيش، وأن ليس هناك تأريخ عدم الصلاحية لها. قبلتُ دعوة اتحاد الكتّاب والأدباء الفلسطينيين وبيت الشعر لكي أسمّي فلسطين ولكي أُصغي إلى اسم فلسطين، فنعرف كلنا جميعاً أنّه لا يوجد سوى ما نسمّيه. كنت متأكداً بأنني لمّا أعبر الجسر عائداً إلى بلدي، بعد أيامٍ قليلة، لنْ أكون أنا الإنسان ذاته الذي دخل رام الله. يقال في المغرب: "ما كَنْخرُج مِن الحمّام بِحال ما دخلنا"، وهو صحيح بلا شكّ. أرغب في أن يعتمد اتحاد الكتّاب والأدباء الفلسطينيين وبيت الشعر على مدرسة طليطلة لنحلم جنباً إلى جنبٍ بمشاريع للتعاون والترجمة من أجل أن نكافح الاحتلال. وأرغب أيضاً في أن يأتي يوم لا ضرورة للمرء أن يقول فيه ـ مثلما كتب يوماً محمود درويش ـ "وطني ليسَ حقيبة". أمامنا طريق طويلة وسليمة ومعبّدة شيئاً ما. فلنتفضّل! فلنترجم!
كتبَ المؤرّخون أنّ مدرسة طليطلة للمترجمين من أقدَم مدارس الترجمة في التاريخ الأوروبيّ وأهمّها وأعرقها. وبالفعل، أطلِق هذا الاسم على واقعٍ تاريخيّ ممتدٍّ بين القرنين الثاني عشر والثالث عشر ميلادي، أُنجِز في إطاره بصورة منتظِمةٍ، تحت رعاية مطرانيَّة طليطلة، ورعاية ألفونسو العاشر، العديدُ من الترجمات لنصوصٍ عربية تحمل قسماً من العلوم والفلسفة الإغريقية والفارسية والهِندية التي وصلتْ إلى أيّامنا هذه. وقد تَأَتَّى هذا الوضع عندما سقطت طليطلة، وهي أوّل مدينة إسلامية أندلسية كبيرة تقع في أيدي المسيحيين. إذ حين استولى عليها الملك القشتالي ألفونسو السادس سنة 1085، وجَدَ مكتباتِها زاخرةً بالمؤلّفات العربية، التي ضمَّت في ما ضمّت بقايا مكتبة الحكم الثاني، الحكم المستنصر بالله، تاسع أمراء الدولة الأموية في الأندلس، التي اشتَهَرت في قرطبة بكتبها الأربعمئة ألف. بفضل حركة الترجمة من تلك النصوص العربية إلى اللاتينية والإسبانية، انتقلت الأرِسطية (نسبة إلى أرسطو)، وبشكل خاصّ الرُشدية (نسبة إلى ابن رشد)، إلى أوروبا. وقد أثّرت أعمال أرسطوطاليس في تفكير سان توما (توما الإكويني)، وأجَّجت الجدال بين الفلاسفة واللاهوتيين في جامعة باريس. كان عطاء مدرسة طليطلة مهمًّا بشكل خاص في الطبّ والرياضيات والفلك والتنجيم. ففي الرياضيات، على سبيل المثال، شاع استعمال النظام السِّتُّونيّ والصِفر. وساعدَتْ الصفائحُ الألفونسية، كوبرنيك على تطوير نَظرياتِهِ حولَ مرْكزيّة الشمس. لم ينقُل المترجمون النصوصَ فقط، بل نقلوا أيضاً المنهج التجريبي المقتبِس عن المسلمين: التجربة والتأمّل والقياس، الذي كان أساسياً في تطوّر العلوم الحديثة والنهضة الأوروبية. وضعتْ مدرسة المترجمين بترجماتها ومناهجها وإحساسها، الأُسُسَ التي ستُؤدّي بعد قرنين من الزمان، وبدعم من المطبَعة، إلى قيام النَّهضة الأوروبية.
- لم تحدثنا بعدُ عن دورها المعاصر في تخريج المترجمين وفي تواصل الثقافتين العربية والإسبانية.
اليوم مدرسة المترجمين هي مؤسسة للأبحاث والترجمة وتكوين المترجمين، تابعة لجامعة كستيا ـ لامنتشا العامّة. من بين أهدافها، تسعى إلى إحْياء مدرسة طليطلة القديمة روحاً وجسدًا، وتهدف إلى أن تتحوّل إلى فضاءٍ حقيقي للقاء والحوار حول الحركات الفكرية وتدفّق الأفكار. كما تسعى إلى إيجاد شبكة من المؤسّسات المتوَسّطية للكتابة والترجمة والنشر، وإلى تكوين جيل جديد من المترجمين من العربية إلى الإسبانية. وأرغب هنا في الإشارة إلى أنّ أكثر من ألف وتسعمئة طالب من جامعات عربية ومن جميع أنحاء البحر الأبيض المتوسط درسوا عندنا، ضمن دورة سنوية متخصّصة في الترجمة من العربية إلى الإسبانية. وعلى رأس كلّ ذلك، تسعى مدرسة طليطلة إلى دعم الترجمة من العربية إلى الإسبانية لتقريب القرّاء والباحثين الإسبان من الفكر والأدب العَرَبيّيْن المتَمَثّليْن في المؤلَّفات البارزة. وفي ما يخصّ إنجازاتها في مجال الترجمة، يمكننا أن نذكر مثلاً أنّه خلال السنوات العشرين الأخيرة ترجمنا وأدخلْنا في السوق التجاري للكِتاب الإسباني، عدداً كبيراً من الأعمال الأدبية والفكرية العربية، الكلاسيكية منها والمعاصرة، بما يقرب من مئة كتابٍ، مساهمةً بذلك في إعطاءِ نظرةٍ جديدة عن العالم العربي عند القرّاء الإسبان وقرّاء أميركا اللاتينية. وكذلك نظّمنا عشرات اللقاءات والمؤتمرات الدولية حول الترجمة والعلاقات الثقافية المتوسطية. بالإضافة إلى تنظيم دراسات عُليا في الترجمة العربية الإسبانية، ووصلت إلى دورتها التاسعة عشرة على التوالي: حوالي ألف وتسعمئة متخرّج من الدول العربية، كما قلت سابقاً.
- ماذا تعني لك الترجمة من العربية إلى الإسبانية؟
عمل الترجمة يتطلّب حبًّا كبيرًا للغة التي نترجِم منها واللغة التي نترجِم إليها. فاسْمح لي أن أشهد أنني أعشق لغتي الإسبانية وأحبّ اللغة العربية. كتبتُ مَرّة أنني أحب العربية في دكان الحلاق وعند سائق التاكسي وعند المعلّمة في الاستراحة. أحب الناس الذين يجسّدون اللغة العربية حين يتكلمون، وأحب العرب الذين لا يُتقنون قاعدة العدد، ويجهَلون قاعِدة كتابة الهمزة. أحب حرف النون، وسورة النور، والناي والشاي بالنعنع. أحب خشونة العامية المغربية، وموسيقى اللهجات الشرقية، وعبارة "شْلونك" العراقية. وأحب الأربعة آلاف كلمة من أصل عربي في اللغة الإسبانية. لكنني لا أحب لغة التطرّف الهَمَجِية. ومع كلّ هذا، فمرّات كثيرة شعرتُ بعدم الرضا أو عدم الأمان عند تعاملي بالعربية. صدّقْني إذا قلت لك إن من يدرس اللغة العربية يحبّ التحديات.
فالترجمة من العربية إلى الإسبانية أمرٌ مهمّ جداً للطرفين، لأننا ننظر إلى الترجمة باعتبارها "سعياً إلى الآخر الذي هو أنا"، بحسب كلمات أبي حيّان التوحيدي. ما ينبغي علينا كمترجمين هو أن نسعى جميعاً ونُرغِم اللغتين العربية والإسبانية وغيرِهما على استضافة الغريب، الآخر الذي هو أنا. قال فيدريكو غارثيا لوركا ألف مرّة ومرّة إنّه بِسبب ولادته في مدينة غرناطة كانت لديه قدرة خاصّة لفهم المتشرّدين في العالم، لفهم الموريسكيّ والسافارديم الذين يعيشون في داخله، ولهم مكانة في عروق جميع الإسبانيّين، قديماً وحديثاً. ليست اللغات والهويات والثقافات سوى أُحجية أو فُسيفِساء غير متكاملة وفي تحوّل دائم.
- ما هي الصعوبات التي واجهتك وتواجهك كمترجم؟
نحن اليوم كمترجمين نعدّ أنفسنا محظوظين لأننا نمتلك أدوات ووسائل متعددة، تساهم بدورها في تسهيل عملِنا. أقصد هنا المعاجم والموسوعات والمكتبات، وذلك أيضًا عن طريق الإنترنت والتشات والدورات في الترجمة والدراسات حولها، بالإضافة إلى إمكانية التواصل مع المؤلّف أو مع الناطقين باللغة العربية، من دون أن ننسى الاستعانة بـ"السيد جوجل"، كما سمّاه البعض. لكن بالرغم من الاستعانة بتلك الأدوات، فإن الترجمة بحدّ ذاتها ليست وظيفة أوتوماتيكيّة مجرّدة من الصعوبات. فالترجمة، أو على الأقل الترجمة الأدبية، لا تعني ترجمة الكلمات ولا حتى الجمل. يمكن لأي إنسان يتحدّث بلغتين وباستعانته بالقاموس أو بدليل للترجمة أن يقوم بتلك العملية، لكن القضية لا تكمن هنا. فنحن لا نترجم الكلمات ولا حتى الجمل، بل نترجم ما أرادت أن تقولَه تلك الكلمات وتلك الجمل. وهذا لا يساوي ذاك.
كما قال الأديب خورخي لويس بورخيس، المعاجم ثنائية اللغة، ليس فقط أنها لا تصل إلى المعنى المحدّد، بل لأنها تتجاهل القاعدة الثقافية والمفهوم الذي قد تحويه الكلمات: مثلًا طائر البوم يرمز باللغة العربية الى التشاؤم، أمّا بالإسبانية فيرمز إلى المعرفة، والطفل "يوسف" ليس هو الطفل "خوسيه"، وكلمة "غابة" بالإسبانية دلالاتها مختلفة عن دلالات كلمة "غابة" بالعربية. والسؤال هنا، هل من الممكن ترجمة الثقافات؟ غالباً، ما يقوم به المترجم هو "أقلمة" تلك الثقافات وتبسيطها، وجعلها قابلة للاستيعاب لكي تصل إلى القارئ من دون عنف ولا استغراب. في الحقيقة، ومثلما كتب الأكاديمي والمترجم الإسباني ميغيل ساينث، أنه عندما نتعامل مع الثقافات، علينا أن نتشاركها وننقلها كما هي على طبيعتها، إذ إننا بذلك نقوم بعرض مدى رؤية الآخر وجعله يصل إلى ما هو مختلف عنه، ما يتيح للقارئ إمكانية الغوص في أعماق ثقافة الآخر. هذا من ناحية المضمون، أما من ناحية الشكل، فبحسب رأيي أنه في حالة الشعر، يكون الشكل في كثير من الأحيان هو المضمون، فيجب مراعاة ذلك الجانب الى أبعد حدّ. وإذا كان الأمر يتعلّق بعمل نثريّ، أحرص على أن تكون قراءة النصّ باللغة الإسبانية الأكثر طلاقة، ولكن، بالتوازي مع ما يسمح به التركيب النحوي للنصّ الأصلي. الوصول إلى هذا التوازن وإلى نقطة الوسط بين ما هو غريب وبين ما هو مألوف، يعتبر التحدي الأكبر الذي يُواجه المترجم.
- هل المترجِم هو وسيط أم مؤلف ظلّ أم مبدع ثان للعمل المترجم؟
إن المترجم هو المؤلّف لترجمته، حسب ما جاء في نص اتفاقية برن عام 1886. وفي حالة التشريع الإسباني، فإن ذلك يحدّده قانون الملكية الفكرية منذ عام 1987. فالمترجم هو المؤلّف لما يترجمه. هذا ما يؤكده تاريخ الكُتّاب والمُفكرين، على سبيل المثال الفيلسوف والكاتب نوفاليس الذي يؤكّد أن كلّ أدب هو ترجمة. أو كما كتب أوكتافيو باث أن الترجمة هي وظيفة متخصّصة من الأدب. وفي الحقيقة أن المترجم هو دائم الحركة بين قُطبين: الأوّل هو تواضعه الطبيعي كخادم، والثاني هو الفخر الناتج عن وعيه كمُبدِع. فمجدَّداً أقول إن مهمة الحفاظ على التوازن بين القُطبين، تعدّ من أصعب التحديات التي يمرّ بها المترجم.
- هل من مشاريع لديك تنتظر النور مستقبلاً؟
لحسن الحظ، المشاريع دائماً كثيرة. وكمدير لمدرسة المترجمين، أرى أنه من الضروري العمل على تشجيع الترجمة من العربية إلى الإسبانية للعديد من الأعمال الشعرية التي تعود إلى العصر العباسي، والشعر الشرقي الكلاسيكي بشكل عام. وأرى أيضاً أنه من الضروريّ فتح قنوات جديدة لترجمة الدراسات والأبحاث، والمسرح وأدب الأطفال والشباب العرب. على المستوى الشخصي، بدأت للتوّ بترجمة مخطوط يعود للقرن الثاني عشر، وهو عبارة عن مقالة في الطب والسحر، تقع في ما يقرب من مئتي صفحة. وممّا لا شكّ فيه أن هذا المشروع سيشغلني على الأقل خلال السنتين القادمتين. بالإضافة إلى العمل على إعداد مختارات من شعر أبي العلاء المعري وبعض الشعراء المعاصرين. وهي مشاريع دائماً حاضرة في ذهني.
- ما بين أوّل كتابٍ ترجمته، وآخر كتاب، كيف تنظر لمسيرتك الآن؟
بين أوّل كتاب وآخر كتاب ترجمته، هناك ما يقرُب من 26 عملاً، وفيها ترجمت الرواية والشعر والسيرة الذاتية وكتب الأطفال. من ناحية أخرى وأثناء هذه الفترة، قمت بإعطاء عدد لا بأس به من المحاضرات في الترجمة، ومن خلالها تعلّمت الكثير من طُلابي وطالباتي. بالرغم من ذلك، ففي كلّ مرة أبدأ بترجمة جديدة، يتملّكني الشعور بعدم الثقة وقلّة الحيلة، مثلما تملّكني عند ترجمة أوّل كتاب. في الحقيقة، أنا لا أكترث لذلك وقد لا يؤلمني، فهذا ما يجب أن يكون الأمر عليه، إذ لا توجد في حقل الترجمة معادلات أو قواعد بعينها. على المترجم أن ينتابه الشعور بالشكّ عند كلّ حلّ يختاره، فيرجع إلى نصّه المرّة تلو المرّة. لا أقوم بتقديم الترجمة من دون مراجعة كاملة لأربع وحتى ست مرات، من دون أن أعرضها على أحد ناطقي اللغة الإسبانية، ممّن ليست لديه المعرفة بمزايا اللغة العربية وخفايا ثقافتها. وحسب ظنّي، فإنّ المؤلّف ينتابه شعور مشابه. أقوم بالمراجعة المرّة تلو المرّة ولو أنّني على يقين دائماً بأنّ النسخة الأولى هي الأفضل. الحدس والخبرة هما أفضل ما يملك المترجم من أسلحة. نحن المترجمون نمتلك النوتة الموسيقية، وعلينا أن نقوم بعَزْفها. الأمر يبدو سهلاً، لكن علينا ألا ننسى بأن كلّ نصّ يحتمل أشكالاً عديدة لترجمته، وكلّها صحيحة ومقبولة على فرض أنها تتوافق مع المعايير التي سبق أن تقيّد بها المترجم.
- ما أكثر عمل أتعبك في ترجمته؟ وما أقرب عمل إلى قلبك؟
ربما بسبب كونه أوّل عمل، فهو أحد أكثر الأعمال التي تركتْ أثراً في داخلي، ألا وهو ترجمة ديوان "أنشودة المطر"، لبدر شاكر السياب. وأيضاً استمتعت كثيراً خلال ترجمتي لـ"البئر الأولى"، لجبرا إبراهيم جبرا، وهو آخر عمل قمت بترجمته بالتعاون مع ماري لوث كومندادور. وأعتقد أن الترجمة التي قد تسبّب لي التعب وحالةً من الرضا معاً هي ترجمة اللزوميّات للمعري، فعصرنا الحاضر هو أحوج ما يكون لمثل ذلك المفكّر.
- كيف تنظر للترجمة والمترجم، في زماننا هذا؟
كما قيل مراراً، الترجمة هي جسرُ التلاقي وإزالة الحواجِز بين اللغات والشعوب والثقافات والأديان. الترجمة هي من أقدم المهن وأهمّها في تاريخ الإنسان. لكنَّني لم أُصبح مترجماً لسبب من هذه الأسباب. أصبحتُ مترجماً لأنني اكتشفتُ يوماً لغة العرب وأحببتها بفضل أُستاذتي الأولى وكان عمري ثماني عشرة سنة. أصبحت مترجماً لأنني أحبّ لغتي الإسبانية غايةَ الحب. ولأنني كلّما ترجمت كتاباً جديداً أعيش حياة مضافةً لحياتي العادية بما فيها من متعة ومشقّة. وأصبحت مترجماً لأنني أوقن، بحُكْم المعرفة، بأن الثقافة العربية لديها كثير ممّا تقوله للثقافة الغربية. كثيرٌ هو الفكر والأدب العربي الذي يتطلّب الترجمة، وكثيرة هي الحقول لنحصدها. ولعلّ وجود مدرسة طليطلة للمترجمين الحالية، يمثل أحسن حافز على ذلك الدربِ الذي طالما يَسلُكه المرءُ وحيداً منفَرِدًا.
- ما هي طريقتك في الترجمة؟ وكيف تختار هذا الكتاب دون ذاك، ولماذا؟
عمل الترجمة يحتاج إلى تكوين وتخطيط وجهد وصبر ومال. قبل أيّام سمعت صاحب دار نلسن للنشر في لبنان يقول إنّه في عملية الترجمة يكون اختيار الكتاب مهمّاً، واختيار المترجم أهمّ، وأهمّ الأهمّ هو اختيار المؤسّسة التي يمكن أن تدعم الكتِاب أو تشترِك في تمويله من دون أن ترهق دار النشر بالأعباء والشروط. وبالفعل، عملية الترجمة تتطلّب منّا أن نتّحد في ما بيننا. والمعيار الرئيس يتعلّق بالجودة الأدبية للنصّ الأصلي. وبذلك يتحتّم علينا أن نكون دائمي التشاور في ما بيننا كمؤلفين ومترجمين وناشرين ومتخصصين من عرب وغير عرب. ومن جانب آخر، نبحث عن مؤلفات تأسيسيّة ضمن نوعها، وضمن الأدب أو الفكر العربي. إذا كانت تلك الأعمال قد تُرجمت إلى لغات أخرى أم لم تترجم، فهذا شيء ثانوي. غير أن الاختيار الجيد للمؤلّف والعمل الأدبي والمترجم ليس كافياً كما سبق وقلت. فمن المهم إيجاد دار النشر التي لديها التصنيف المناسب لذلك العمل، بالإضافة إلى التوزيع المحترم كي يخرج هذا العمل من بيئته الأكاديمية ويصل إلى القارئ العادي، كما هو الحال بالنسبة للأدب الانجليزي أو الألماني، على سبيل المثال. هذا، ومن المهم السعي إلى تقديمه إلى جمهور القرّاء في الصحف والمجلات. وتلك المهمة تتطلّب المثابرة والعمل الجيد. ومدرسة طليطلة للمترجمين يقع على عاتقها الاستمرار على هذا النهج خلال العقود المقبلة، تمامًا مثلما قامت به حتى الآن. تلك هي مهمّتها ضمن العديد من المهامّ الأخرى.
- يقول صالح علماني إن "الترجمة بدأت تتحوّل إلى جنس أدبي قائم بذاته، فالمترجم صار يعدّ مؤلفاً للترجمة، كما تعرّفه قوانين وأنظمة الملكية الفكرية". ماذا تقول أنت؟
إنني موافق تماماً مع المترجم الكبير وصديقي العزيز صالح علماني. الترجمة جنس جديد يعبر بطريقة عمودية جميع الأجناس. في هذا الصدد قال الفيلسوف الإسباني خوسيه أورتيغا إي غاسيت، إنّ النص المترجَم لا ينتمي إلى جنس النصّ الأصلي. وفي ما يتعلّق بالمترجم فهو حرفيٌ يختبئ خلف كلمات المؤلفين من أجل توسيع صداها، بينما يبقى هو وراء الستار في العتمة وحيداً. فهو من حين إلى حين يشكّ في احتمال وجود قرّاء لعمله المخلص والدقيق. وكثيراً ما يتساءل عن وجود مَن يقدّر كل ذلك الجهد المبذول. إلا أنه في يوم من الأيام يحدث ما لم يكن يتوقعه: يصِل إليه خبر تلقيه جائزة خادم الحرمين الشريفين العالمية للترجمة في مجال جهود الأفراد اعترافاً بعمله المتواضع. حينها يشعر بالجميل العميق الصريح لمجلس أمناء الجائزة، ويتذكّر جميع الأساتذة الذين علّموه اللغة العربية، وكلّ المؤلفين الذين ترجمهم.
- زرت فلسطين المحتلة أخيراً، ما هي انطباعاتك؟
كثير وجميل هو ما قدمتْ لي اللغةُ العربية خلال العقود الثلاثة الماضية. وآخر ما قدمتْ لي العربية هي هذه الزيارة. فلأوّل مرة عبرتُ الجسر ودخلت القدس وبيت لحم ونابلس وأريحا ورام الله ومدناً أخرى. لِأوّل مرة أنا في فلسطين. هذا السفر انتظرته طويلاً. وأعرف اليوم أنه بالنسبة لقلبي من أخطر الأسفار التي بادرت إليها وقد أبادرها ثانية في حياتي. وما كانت مهمّتي في تلك الرحلة؟ لقد ترجمتُ وتعرّفت إلى عدد لا بأس به من الشعراء والكتّاب الفلسطينيين في الشتات، ولكنني كنت أنشد التعرّف أيضاً إلى الكتّاب والشعراء داخلَ فلسطين. تلك كانت مهمّتي. وكنتُ أودّ كذلك أن أشعر معهم، وأن أشاركهم الحزن والوجع والقهر الذي يسبّبه الاحتلال في حياتهم اليومية العادية، كما كنت أودّ أن أرى وأن ألمس واقعاً تنكره دول وحكومات عديدة. الواقع الذي رأيته هو أن فلسطين تحيا وتعيش، وأن ليس هناك تأريخ عدم الصلاحية لها. قبلتُ دعوة اتحاد الكتّاب والأدباء الفلسطينيين وبيت الشعر لكي أسمّي فلسطين ولكي أُصغي إلى اسم فلسطين، فنعرف كلنا جميعاً أنّه لا يوجد سوى ما نسمّيه. كنت متأكداً بأنني لمّا أعبر الجسر عائداً إلى بلدي، بعد أيامٍ قليلة، لنْ أكون أنا الإنسان ذاته الذي دخل رام الله. يقال في المغرب: "ما كَنْخرُج مِن الحمّام بِحال ما دخلنا"، وهو صحيح بلا شكّ. أرغب في أن يعتمد اتحاد الكتّاب والأدباء الفلسطينيين وبيت الشعر على مدرسة طليطلة لنحلم جنباً إلى جنبٍ بمشاريع للتعاون والترجمة من أجل أن نكافح الاحتلال. وأرغب أيضاً في أن يأتي يوم لا ضرورة للمرء أن يقول فيه ـ مثلما كتب يوماً محمود درويش ـ "وطني ليسَ حقيبة". أمامنا طريق طويلة وسليمة ومعبّدة شيئاً ما. فلنتفضّل! فلنترجم!