في عنفوان العمر، ونحن نتلمّس طرقنا إلى ساحات النضال، عرفنا أسماءً كانت تبثّ المعنى في حياة تثقلها معاناة شعوب العالم، وهي تنتفض على الدكتاتوريات في بلدان أميركا اللاتينية وأفريقيا، وشرق المتوسّط وغربه، وفي أوروبا الخارجة للتو من ويلات جراحات غائرة ومآسٍ فاجعة كما في إسبانيا.
عرفنا أسماءً في سماوات الغناء لها فرادتها وروحها الثائرة. كانت تصل من أميركا اللاتينية أصوات فيوليتا بارا وفكتور خارا (تشيلي)، وسيلفيو رودريغيث وبابلو ميلانيس (كوبا)، وألفريدو ثيتاروسا وألان غوميث (الأوروغواي)، وأتاهوالبا يوبانكي وميرسيديس سوسا (الأرجنتين)، وجورج براسينس وجورج موستاكي (فرنسا)، والبلجيكي جاك بريل والجمايكي بوب مارلي والبريطاني جون لينون والأميركي بوب ديلان والإسبان باكو إيبانييث وفيكتور مانويل وجوان مانويل سيرات وخواكين سابينا وأمانثيو برادا ولويس إدواردو آوتي...
في ظل غموض يكتنف مصير الإنسانية بسبب الجائحة التي تضرب العالم، يأتي رحيل الشاعر والمغني والفنان التشكيلي والنحات والسينمائي الإسباني لويس إدواردو آوتي عن عمر يناهز الـ 76 عاماً، بعد تعرضه لأزمة صحية، ولم يعرف الأهل هل مات بسبب الوباء المتفشّي أم لسبب آخر.
كان آوتي قد عرف انتكاسة صحية بسبب نوبة قلبية عام 2016 أبقته في غيبوبة لمدة شهرين، وبعد تعافيه اختار الشاعر الانسحاب من عالم الغناء، والبقاء في عزلة بيته بمدريد تحت عناية أهله وأقاربه. وفي كانون الأول/ ديسمبر 2018، احتفى به العديد من الفنانين الذين عايشوا تألقه مبدعاً متعدد الأوجه في حفل كبير ساهم فيه الإسبان: فكتور مانويل وجوان مانويل سيرات، وخواكين سابينا، والكوبيان سيلفيو رودريغيث وبابلو ميلانيس، والأوروغواياني خورخي دريكسلير من بين آخرين...
كان آوتي أكثر من مجرّد شاعر وموسيقي في إسبانيا خلال مرحلة الانتقال الديمقراطي، لقد رأى فجر الديمقراطية ينبثق، وصاحبها بأشعاره وأغانيه حتى استحق لقب تروبادور الفجر والجمال، وكان شاهداً على واقع جديد، عكسته مئات القصائد والأغاني التي منحها صوته الشعري الأكثر عمقاً، وقاد أحلامها وخطواتها الفتية نحو الضوء.
وُلد آوتي في مانيلا في الفليبين عام 1943، من أب كاتالوني وأم فلبينية، في خضمّ الحرب العالمية الثانية، في مدينة دمرها القتال بين الفلبينيين واليابانيين. كان الصبي يدرس الإنكليزية في المدرسة، ويتحدث الإسبانية في البيت والتاغالوغية في الشارع، يستهويه الرسم والسينما (أخرج في 2001 فيلم كارتون من رسوماته: "كلب يدعى الألم").
لاحقاً غادر مانيلا بصحبة أسرته، ليستقر في مدريد وهو في الحادية عشرة. كان آوتي يعشق سرد تلك الحكاية التي تضطلع ببطولتها زهرة عبّاد شمس متمردة يسميها زهرة عبّاد قمر، وهي زهرة عبّاد الشمس، عكس الأخريات، قررت ألا تطأطئ رأسها ليلاً وأن تنتظر مجيء القمر، حين تغرق السماء في حلكة الظلام. هكذا عرفت الزهرة القمر والنجوم، وتحت أثر الضوء في العتمة الدامسة، وكوفئت على نباهتها وتبصّرها وحكمتها وفضولها المعرفي وإصرارها. تلك الزهرة المميّزة والمنشقة عن القطيع، قد تكون صورة آوتي نفسه، المغني التروبادور الجوال المحتفي بأغاني الحب، شاعر اليومي الحالم والمتخفي والغاضب من انهيارات عالم مختلٍّ:
ثمَّة من يحلم بالأنهار
التي تقود إلى إلدورادو،
وثمة من يحلم بينابيع
الشباب الأبدي
ثمة من يحلم بذهب
العجل المعبود
ومن يحلم بالكيمياء
التي تصنع من الرذيلة فضيلة.
لكني أنا الذي لا أدعي
لا قوى تحصُّنٍ ولا ثرواتٍ،
سوف أخلد لِحُلمٍ فقط...
في بحر من زهرات عبّاد الشمس
سوف أبحث عن زهرة عبّاد القمر
التي سوف تسهرُ وتكشفُ
كل ليلة الوجه الآخر
للقمر...
لُفِّي، لُفِّي يا زهرة عبّاد القمر،
لُفَّ، لُفَّ، لفَّ، يا قمر
لُفَّ، لُفَّ وانظر إليَّ...
ثمَّة من يحلم بالرعد
بعلبةِ باندورا
هناك من يحلم بالصاعقة
المخلصة للكأس المقدسة
ثمَّة من يحلم بمعبد الأوليمب
الذي لا تقتحمه شرور الفجر
ومن يحلم بالروبوتات
في ما وراء الخير والشر.
عرض آوتي أعماله التشكيلية الأولى في السادسة عشرة من عمره، لكن دخوله عالم الموسيقى أتى صدفة، إذ أهداه والده قيثارة في مرحلة البكالوريا، وكان حينها من عشاق موسيقى الروك المزدهرة حينها، فبدأ يعزف ضمن مجموعات موسيقية بالكلية بعد اجتيازه للخدمة العسكرية.
ومتأثراً برحلة إلى باريس حيث تعرّف إلى أصوات جاك بريل وسيرج غاينسبور، كتب أولى أغنياته، ومن بينها "ورود في البحر" التي عرفت نجاحاً باهراً، ما سيدفعه إلى نشر ألبومه الأول سنة 1967؛ "حوارات رودريغو وخيمينا"، بتأثير واضح لبوب ديلان، لقد لمع من البداية نجم المغنّي المستفز الذي يستبطن الأشياء وينتقد العالم. بعد عام سيصدر "24 أغنية قصيرة"، الألبوم الذي تأثر بجوانب عاطفية ووجودية بعد حادثتين فارقتين: انفصال والديه وزواجه برفيقة حياته.
رغم نجاح مغامرته الموسيقية، كان آوتي يشعر بخيبة أمل، ولعلّ ذلك ما دفعه إلى تكريس نفسه للتشكيل والشعر، وقرّر الانسحاب من عالم الموسيقى، لكنه عاد بقوة مع بدايات السبعينيات ونشر ثلاثيته الرائعة: "أغنيات الحب والموت"، وتتكوّن من "طقس" (1973) و"زبد" (1974) و"الناووس" (1976). وأصبح بذلك أبرز أسماء أغنية النقد الاجتماعي عبر نصوص تميزت بتحررها وبسخريتها من الظلم الاجتماعي، واختار الطريق المناهض للأخلاقيات البالية وللسطحية والجمود، وهي قيم كرّستها سنوات الفرانكوية البائدة.
ومما تفرّد به آوتي في كل مساراته الإبداعية المتعددة، عشقه الثابت والوفيّ لأميركا اللاتينية، وبخاصة كوبا، وللمغرب وبالتحديد لطنجة التي تردّد عليها مراراً، وكان يستحضرها دوماً، وبصدد عشقه لأميركا اللاتينية سبق لآوتي أن قال: "الغرب سفينة تيتانيك تغرق، والمشروع الوحيد الذي يمتلكه سياسياً واقتصادياً هو ترقيع السفينة (...) بينما أميركا اللاتينية توجد في ديناميكية مختلفة. بين الجميع، البعض الأكثر راديكالية والآخرون الأكثر اعتدالاً، لديهم مشروع بناء سفينة".
* كاتب ومترجم من المغرب