لوم الضحية

08 مارس 2016
شطرنج ولعبة ورق للإسباني خوان غريس(Getty)
+ الخط -
ثمة جمل، ليست في اللغة العربية وحدها، بل في جميع اللغات، تجيء في الحديث العابر، أو الكتابة المنمقة، أو التقرير المحايد، بل وحتى في الكلام اليومي. جمل مسبقة الصنع، يظن قائلها إنه قمينٌ أمينٌ بـ "حكمة" خفية تختزنها تلك الجمل، وتزداد الحكمة وجاهةً ما إن ينطق الجملة المسبقة أو يكتبها، وهو في الغالب ينطقها. ويفعل ذلك، بنبرة تقريرية لا تخلو من تهكم شرير: "هي لا تكتب، ثمة من يكتب عنها، إذ إن عقلها أصغر من عقل عصفور" أو " الأمر لا علاقة له بما تكتب، بل بشيء آخر". تعليقات تبدأ على هذا النحو، قبل أن تنعطف صوب المظهر الخارجي؛ لئن كان جميلًا فللطريدة صفات الجاذبية والإثارة، ولئن لم يكن فللطريدة صفات العجائز والمسنين. وفي كل الأحوال، فإن الطرق كلها تفضي إلى روما : وصم المرأة، التقليل من قيمة عملها بل وحتى إنكاره، وجعل مظهرها الخارجي أساسًا في تقييم "شامل" لها ولعملها. وبالطبع فإن الحامل الأساسي لذلك كله، التهكم الشرير - سليل الشتائم، لكن بكياسة - الذي يفتقر طبعًا إلى الذكاء في فنّ السخرية مثلًا.
تهكم شرير، يظهر في تلك الجمل مسبقة الصنع، المتداولة بوفرة حيال المرأة، العاملة بشكل خاص. اللافت أن المستمع أو المستمعة لـ "القمين الأمين"، صاحب الحكمة الخفية، يوافقه الرأي في تسعة وتسعين بالمائة من الحالات، وتحميه في هذا السلوك البغيض، جملة مسبقة الصنع : لوم الضحية هو الأسهل. ويرفد الاثنين معًا طبعُ صغار النفوس : النميمة.

المقارنة في هذا المقام بين الشرق والغرب، تسفر عن فوات حضاري نعاني منه كما لا يخفى، لكنها تكشف أيضًا أن لوم الضحية، حين تكون امرأة، هو السائد عادةً. ربما يكون مفيدًا في هذا المقام، الاطلاع على قضية المذيعة الرياضية الأميركية إرين أندروز، التي تعرّضت لتجربة قاسية، حيث صورها "أحدهم" سرًا في غرفة في فندق شهير. هذا الـ "أحدهم" كان يعرفها بالطبع، وطلب من الفندق أن يحجز غرفة لصق غرفتها. قبل الفندق، وصور الـ "أحدهم" المذيعة، وأذاع الشريط على الإنترنت؛ فالتشهير لا يكون إلا بالمرأة. التشهير ليس إلا نوعًا من النميمة العلنية. بعد ذاك، تمّ لوم الضحية، وقيل إنها هي التي فعلت هذا بنفسها "من أجل الشهرة". كسبت المذيعة القضية، وتمّ تغريم الفندق الشهير، بالاستناد إلى القانون.
في عالمنا العربي، نحن أبعد ما نكون عن القانون. وقليلًا ما يكون التشهير حاضرًا، بينما تزدهر النميمة. لا يحضر التشهير لدينا، بسبب سيادة "قانون التهديد والترغيب" في ظلّ النميمة. وليس سرًا أن قانونًا مماثلًا، ليس إلا سليل الأنظمة المستبدة، وهي أنظمة لا نظام، إذ لا تتعلق بالسياسة وحدها بل بالمجتمع والأعراف والتقاليد والتربية.
ولو عدنا إلى حال الكتابة في عالمنا العربي، لرجحت كفّة الكتاب الذكور عددًا على النساء، في هذه المهنة كما في مهن أخرى كثيرة ولأسباب كثيرة. لكن، نادرًا جدًا ما تتم الإشارة إلى كاتب "نقّح" أحدهم كتابته، رغم وجود ذلك كما لا يخفى. ونادرًا أيضًا ما تتم الإشارة إلى "مسارب" اتّبعها كاتبٌ من أجل الرواج والشهرة. الواقعة نفسها أي التنقيح والمسارب تتغير وتنقلب حال يتعلق الأمر بكاتبة، ليغدو التنقيح "كتابة"، والمسارب "سلوكاً أنثويّاً".
دعك من النظر في النص نفسه، حيث الأفكار المسبقة تجاه جنس الكاتب تعيش وتزدهر، وحيث ازدواج المعايير قانون شرعي. وفي ظلّ النميمة الشهيرة، يغدو التلصص على حياة الكتّاب، ذكورًا وإناثًا، أمرًا مقبولًا: المعشوقة في النص دليلٌ على مكانة الكاتب "العالية" ولعلّها تستدعي نرجسية مقيتة. أمّا المعشوق في النص، فدليل على مكانة "متدنية" وتستدعي نميمة أخبث.
إلا أن ازدواج المعايير هذا قد يختفي حيال الكتابة الرديئة لكلا الجنسين، كما أن تأثيره يقل حال كانت الكتابة في النقد أو البحث العلمي، فلا شيء فيهما يفتح الباب أمام التلصص، مهنة صغار النفوس.
مع ذلك، لا تسلم المرأة عاملة كانت أم لا، من تلك الأحكام المسبقة حولها وحيالها. أحكام تظهر أيضًا في ذلك "العزل" عن المجتمع، كأن يخصص شيءٌ للنساء فحسب. وهو سلوك رائج على ما يبدو حتى لو كان المجتمع يتعرّض لتغيير جذري. تغيير جذري من قبيل؛ ثورة، تدمير منهجي، قتل جماعي، اعتقال، اختطاف، وكل ما من شأنه أن يدل على ما يجري اليوم في سورية، و"يحار" الساسة، ومن ورائهم المحللون الاستراتيجيون، في الاجتهاد لفظيًا لوصفه؛ بين حرب أهلية تحت قناع حرب إقليمية، أو حرب أهلية طائفية ذريعتها مصالح إقليمية. وبين ثورة بلبوس مؤامرة، أو مؤامرة بلبوس ثورة، إلى آخر السبحة.
وبين هذا وذاك، يوم عالمي للاحتفال بالمرأة، وسلوك "مهذب" يريد، عبر تسليط الضوء عليها، عزلها، إذ لا شيء في الأفق عن قوانين تسنّ من أجلها، أو عمّا هو أقل من ذلك: تعطيل مسار لوم الضحية.
مسارٌ رائج سائد، منبته الأنظمة المستبدة. أنظمة لا نظام، إذ تتعلق بالسياسة العالمية ؛ درّة العولمة، حيث لا شيء أسهل من لوم الضحية، من لوم سورية، وبالطبع بعد ذاك التشهير : تقسيم سورية.
المساهمون