لوركا: كل شيء عن أمي

17 أكتوبر 2014
+ الخط -

اسمها بيثنتا لوركا روميرو. شابّة يتيمة تعود أصول عائلتها إلى مدينة لوركا، جنوب شرق إسبانيا. ستتمكّن في أواخر القرن التاسع عشر، رغم صعوبة الظروف وضيق الحريّات، من الحصول على دبلوم في التعليم، لتجد عملاً كمدرّسة في قرية فوينتي باكيروس، غير بعيد عن غرناطة، حيث كانت تقطن مع أمّها. في تلك القرية تلتقي بفيدريكو غارثيّا رودريغِث، الذي سيصبح زوجها، هو المزارع المتواضع الذي صار مالك ثروة وأراضٍ شاسعة بعد أن ورث زوجته الأولى، ماتيلدا دي بلاثيوس.

مجموعة "رسائل بيثنتا لوركا إلى ابنها فيدريكو"، التي كانت صدرت عن دار RBA لمناسبة مضي 72 عاماً على مقتل لوركا (1898 – 1936)، تبدو فرصة مناسبة للاطلاع على العلاقة الحميمة بين الشاعر الشهير، وأمه. هي مراسلاتِ 13 عاماً (بين 1920 و1933)، تدوّن فيها بيثنتا كثيراً من التفاصيل عن حياة لوركا بوضوح وبساطة لا يخلوان من حساسية أمٍّ مُعجبة بموهبة ابنها، وفضول ربّة بيت لا تزال شخصيّتها المستقلّة تستظلّ بالماضي.

كانت بيثنتا مُولعة بالثقافة والموسيقى، وأول ما ستضعه من أثاث في بيت العائلة ستكون رفوف الكتب، وبيانو. كانت تحض لوركا، وأخاه الأصغر فرانثيسكو، على قراءة فكتور هوغو، وتقديره. ويتذكر فرانثيسكو أن الأعمال الكاملة للكاتب الفرنسي الكبير كانت أوّل ما قرأه، هو ولوركا، في طفولتهما.

في إحدى مراسلاته مع كارلوس مارتينِث باربيتو، كتب لوركا: "كانت قراءة مسرحية "هيرناني" لفيكتور هوغو واحدة من أعذب ذكريات طفولتي [...] كانت أمّي تقرأها بأسلوب مثير للإعجاب، بينما كنتُ أشاهد بذهولٍ الخادمات يبكين، [...]. وتلك الصرخة: "دونيا سول! دونيا سول!"، التي تُسمعُ في الفصل الأخير، تركت تأثيراً غير قابل للشكّ في تكويني الحالي ككاتب مسرحيّ".

اضطرّت بيثنتا إلى ترك عملها في المدرسة بعد تزوّجها. لكنها، رغم ذلك، "علّمت مئات الفلاحين القراءة، وكانت تقرأ في الليالي بصوت مرتفع للجميع"، كما يُعقّب لوركا في رسالته إلى باربيتو.

بدرجة العطاء نفسها، ستساهم الأمّ، مع العمّة إيسابيل التي كانت حينها تسكن معهم، في غرس الشغف بالموسيقى مُبكراً في نفس لوركا الطفل.

تروي بيثنتا لرفايل مارتينث نادال، صديق ابنها، أن لوركا، قبل تعلّمه النطق، كان يدندن أغانٍ شعبيّةً، ويفرح ويتحمّس لدى سماع عمّته تعزف الغيتار وتغنّي. فيما بعد، ستنقل بيثنتا إلى أولادها معرفتها واعتناءها بالطقوس الكنائسية، وهي تتغاضى عن الذكرى الأليمة التي بقيت تسكنها جرّاء ما عانته خلال سنواتٍ خمس أمضتها، عندما كانت صغيرة في غرناطة، في ديرٍ للبنات كانت تتولّاه راهبات فرنسيات ومكسيكيات وإسبانيات كُنّ قاسيات معها هي وزميلاتها. هكذا، سيُفتتن لوركا بالشعائر الدينية بفضل أمّه.

تحكي إيسابيل، الأخت الصُغرى للشاعر، في مذكّراتها: "كان فيدريكو معجباً إلى حد بعيد بالطقوس الدينية، فأُمّي كانت تشرحها لنا بصورة رائعة. الطقس هو تأديةُ أدوارٍ مسرحية وغموض؛ كلماتٌ، مفاتيحُ سينقلها إلى أعماله فيما بعد. جميعنا يعرف أنّه من المذبح يُولد المسرح".

تتابع الأم محطات ابنها طوال إقامته الطويلة في مدريد، ومن ثمّ سكنه المؤقت في نيويورك البعيدة الباردة التي صنعت لقصائده ذلك الانعطاف اللامع. تطلب منه أن يُحضر معه، في زياراته، آخر ما كتبه، مُعبّرة عن شوقها "المجنون" للاطلاع على إنجازاته. وتقف إلى جانبه لتخفف عنه بعد فشل عرض مسرحيته "رقية الفراشة المؤذية" (1920)، التي خيّبت ردود الفعل عليها لوركا وكسرته. ستتابع بيثنتا، عن كثب كذلك، ولادة ديوان ابنها الأوّل، "كتاب الأشعار" (1921)، وتوالي نجاحاته الأدبية وعروض مسرحياته في إسبانيا وخارجها.

وكما هو واضح في المراسلات، فقد كانت تُدلي، في بعض الأحيان، بمقترحات تخصّ شؤونه الأدبية، كدعوتها إياه، عام 1926، للحضور إلى غرناطة كي يعرض أعماله على الممثلة المتألّقة مارغريتا شيرغو التي كانت تفتتح في تلك الأيام عملاً مسرحياً في المدينة.

في رسائل أخرى، لا تُخفي عتبها على إهماله، في بعض الأحيان، مراسلتها هي وبقية أفراد العائلة. تسأله بجديّة أن يكرّس بضع دقائق ليكتب أسطراً قليلة يخبرهم فيها عن أحواله. هكذا، تُلتمس علاقة الشاعر الحميمة بأمّه، إذ تكشف الرسائل عن مناخ عائلة أندلسيّة متحررة سيقول لوركا إنه محظوظ بكونه أحد أفرادها. في إحدى المرات، ستعرض الأم على ابنها، بالسرّ، أن يكتب إليها وحدها عن أخباره الأدبية، ضامنةً له جهدها الدائم لإخماد قلق والده حيال عدم اكتراثه بدراسته الجامعية.

في القسم الأخير من الرسائل، تُعرّج بيثنتا بحذر شديد على الأحداث السياسية في البلاد التي كانت تتهيّأ آنذاك لحرب أهليّة دمويّة. هكذا، ستوصيه، في إحدى المراسلات، بزيارة عائلة أحد أصدقائه الذين اعتُقلوا في أعقاب محاولة انقلاب فاشلة للجمهوريين عام 1930.

مراسلات لروكا وأمه مساهمة توثيقيّة من زاوية مختلفة في بيبلوغرافيا الشاعر والمسرحي الشهير، يُرى من خلالها تأثيرها فيه. السيّدة الوقورة ذات الشخصية الباعثة على الاحترام، صاحبة دورٍ محوريّ في مسيرة ابنها الأدبية؛ دور أدّته بأناةٍ وحنان منذ طفولته، حتى التاسع عشر من آب/ أغسطس سنة 1936، يوم بلغها نبأ مقتله الذي كسر قلبها.

المساهمون