لوران كانتيه: "يعجبني أن يكون الفيلم وسيلة لاكتشاف الأشياء"

19 يونيو 2019
كانتيه: أحصل على ما أريد أثناء التصوير(سامويل دي رومان/Getty)
+ الخط -
اظهر الملخص
- لوران كانتيه، المخرج الفرنسي المولود في 1961، يتميز بخلق عالم سينمائي متفرد عبر سبعة أفلام، مركزًا على ديناميكيات المجموعات البشرية والفرديات داخلها، بدءًا من "موارد بشرية" في 2000.
- فيلمه "الورشة" (2017) يستكشف شخصية الشباب والفكر اليميني المتطرف، مع التركيز على أهمية السيناريو في صناعة الأفلام، متعاونًا مع كتّاب مثل روبن كامبيو.
- يستخدم كانتيه الفضاءات المغلقة لاستكشاف العلاقات الإنسانية، معتبرًا الإيقاع عنصرًا حاسمًا من الكتابة إلى المونتاج، ويرى في السينما وسيلة للتعبير عن الإنسانية واستكشاف القضايا المعقدة.
سينمائيون قليلون استطاعوا صوغ عالم وجمالية متفردين، عبر منجزٍ لم يبلغ 10 أفلام طويلة. الفرنسي لوران كانتيه (1961) أحد هؤلاء. له 7 أفلام طويلة، أولها "موارد بشرية" (2000). منذ ذلك الحين، لم يكفّ عن محاولة فهم سير المجموعات البشرية، وتمايز الفرديات فيها، وفق ميكانيزمات تحاكي السوسيولوجيا، لكنّها تذهب أبعد وأعمق منها.

في فيلمه الأخير، "الورشة" (2017)، الذي يرنّ براهنية كبيرة اليوم، نظرًا إلى نتائج الانتخابات الأوروبية، يعود كانتيه إلى الشباب، الفئة الأقرب إلى قلبه واهتماماته، لفهم حيثيات انجذاب شاب مُهمّش إلى فكر اليمين الفرنسي المتطرّف، انطلاقًا من سيناريو ذكي، يقتفي مراحل تشكّل سيناريو آخر أمامنا داخل ورشة روائية، تديرها كاتبة يسارية بورجوازية الهوى.

رغم أن فضاءات الفيلم مفتوحة، فإن كانتيه ـ الوفيٌّ لعادته تفضيل الفضاء المغلق ـ صوّر لاسيوتا كسجن كبير يحجز آمال الشخصيات ويحدّ آفاقها، تمامًا كالشرفة على سطح "عودة إلى إيثاكا" (2014)، وحيطان الفصل في "بين الجدران" (2008)، المتوّج بـ"السعفة الذهبية" في الدورة الـ61 (14 ـ 25 مايو/ أيار 2008) لمهرجان كانّ السينمائي الدولي.

بمناسبة مشاركته في لجنة تحكيم الدورة الـ17 (30 نوفمبر/ تشرين الثاني ـ 8 ديسمبر/ كانون الأول 2018) لـ"المهرجان الدولي للفيلم بمراكش"، أجرت "العربي الجديد" هذا الحوار مع لوران كانتيه.

يحتلّ السيناريو مكانًا بارزًا في عملك، وفي الوقت نفسه تعمل عليه كمادّة حيّة في المراحل كلّها لعملية التنفيذ. هل طريقة الاشتغال هذه طبيعية منذ البداية، أم أنها ثمرة تفكير؟
أعتقد أنها طريقة عمل فرضت نفسها بشكل عام. أشعر دائمًا أنّ عليّ أخذ النص على حقيقته: أداة عمل، من بين أمور أخرى. هذا يعني أن هناك فرضيات يضعها المرء عند الكتابة بمفرده، منزويًا في ركنه، أو رفقة أحدهم. ما يهمّني هو خليط هذه الفرضيات، وحقيقة ما سوف يجلبه الممثّلون. بالنسبة إليّ، يكمن جوهر السينما في العمل مع الممثّلين.
عادةً، تكتب سيناريوهات أفلامك رفقة آخرين، خصوصًا روبن كامبيو. هذا ما أريد التحدّث عن حيثياته، نظرًا إلى أننا نادرًا ما نجد مخرجين مؤلّفين يكتبون نصوصهم بأربعة أيدٍ أو أكثر، في السينما المغربية مثلاً.
أنا غير قادر تمامًا على الكتابة بمفردي. أحتاج إلى مرآة، إلى الشكّ في ما أكتب مع شخص أعمل معه، وإلى التمعّن في شكوكه. أحتاج أيضًا إلى الشعور بالإثارة الذي يجتاحك أحيانًا حين تجد شيئًا ما، بشكل مشترك، يفاجئك أو يفاجئ الآخر، ويؤدّي إلى حوار وتبادل آراء حول مشهد ما. هذا لا غنى عنه بالنسبة إليّ، مع روبن خاصّة، فنحن نعمل معًا منذ نحو 25 عامًا. كنا زميلين في مدرسة السينما "ليديك". منذئذٍ، لم تتوقّف صداقتنا وعملنا المشترك أبدًا.

هناك أيضًا اهتمامك بالشباب الذي يكاد يكون لازمةً في أفلامك. نشعر أنّه مهمّ للغاية بالنسبة إليك.
أجد أننا لا نعطي الكلمة كما ينبغي إلى الشباب. نحكم عليهم بدل فهمهم، أحيانًا كثيرة، وبشكل سلبي غالبًا. هؤلاء مواطنو الغد. هم من سيرثون هذا العالم الفاسد الذي صنعناه. بالنسبة إليّ، مثيرٌ للاهتمام أنْ أتأمّل هذا كلّه. لديّ انطباع بأنّ الشباب هم حقًا مرحلة الحياة التي تتشكّل فيها أفكار المرء، وهذا يهمّني لاعتقادي أنها سوف تقرّر كلّ ما سيتبع. نحن نترك فضاءً ضيّقًا جدًا للشباب، ونمنحهم فرصًا قليلة وأملاً صغيرًا. أقلّ شيء بالنسبة إليّ هو أن أصيخ السمع لما يقولون.

هناك شيء مميّز في أفلامك، بحيث إنها لا تفصح منذ البداية عن كنهها. نبدأ بنقاشاتٍ عادية في فصل دراسي في "بين الجدران"، أو بجلسة حميمة بين أصدقاء على شرفة في "العودة إلى إيثاكا"، ثم تصبح الأمور معقّدة، شيئًا فشيئًا، حتى نصل إلى انفجار مشاعر.
أحبّ هذا النسق من البناء. هذا يشبه نوعًا ما "كبّة الخيوط"، حين تسحب الخيوط منها في كلّ اتجاه، ثم هناك خيط يفرض نفسه أكثر. معك حق في أنّ شيئًا ما ربما يبدو قليل الأهمية، أو وثائقيًا جدًا في البداية. كأنّي أقول: "إليكم هذه المجموعة. انظروا إليها جيدًا، وتشرّبوا نسق حياتها، فبعد قليل سوف تتّضح الفرديات داخلها". ما يهمّني هو خلق توتّرات ومراقبة عمل المجموعات، ليس فقط من وجهة نظر اجتماعية، بل أيضًا لخلق قصصٍ انطلاقًا من ذلك.

ما الفترة التي تروقك أكثر: الكتابة أم التصوير؟
- أحب التّصوير حقًا. لكن، في الواقع، تروقني الكتابة أيضًا. أعتقد أن لي حظًّا كبيرًا في القدرة على تحقيق أفلام. هذا امتياز. أضف إلى ذلك، أنه يمنحك سعادة كبيرة في المراحل كلّها. الخطوة التي تهمّني بدرجة أقلّ، وتجعلني ربما أقلّ سعادة، هي عمليّة إطلاق الأفلام والترويج لها. من جهة ثانية، فإنّ إخراج الأفلام عمل تتخلّله لحظات قلق كثيرة. لكن، حتّى هذا القلق يبقى جذّابًا ومُثيرًا، نوعاً ما.

هل تقضي وقتًا طويلا في المونتاج؟ أتخيّل، انطلاقًا من طريقة اشتغالك، أنّك تَخرُج من التصوير بمادّة مهمّة، إلى حدّ ما.
نعم. لكن، مثلاً في "بين الجدران"، الذي صوّرته بكاميرات عديدة، كانت لديّ 150 ساعة من الصُوَر. مُدهش حقًا أنه تمّ توليف الفيلم في 12 أسبوعًا، لأن هناك أشياء بدت واضحة فورًا. ما يهمّني في المشهد هو، غالبًا، الطاقة التي تنبعث منه أكثر من دقّة تأطير الصُوَر، وغير ذلك. أحيانًا، أميل إلى اتّخاذ قرار تغيير سلّم اللقطات، لأن هناك شيئًا ما يحدث على إحدى الكاميرات أجده جميلاً جدًا.

هذا كلّ شيء. بعد ذلك، أعتقد أنّه يمكنني الاستمرار بالاشتغال على توليف هذه الأفلام مدى الحياة، فهناك احتمالات عديدة يمكن أن تستمرّ في اختبارها إلى الأبد. لكن، هناك شيء ما حصلت عليه مع الخبرة: أن أقدر على القول: "هذا يروقني. ربما ستروقني أشياء أخرى أكثر، لكنّي سأختار الآن، وليكن ما سيكون".

"العودة إلى إيثاكا" أعجبني كثيرًا. أعتقد أنه لم يلق الترحيب الذي يستحقه. فيلم مؤثّر للغاية. أظنّ أن هذا نابع من المخاطرة التي ينطوي عليها المشروع، لأنك تطرق فيه واقعًا "أجنبيًا" عنك، رغم أنّك كتبته رفقة الكاتب الكوبي ليوناردو بادورا.
سؤالٌ طرحته على نفسي: ما هي شرعيتي لرواية هذه القصّة الكوبية؟ في الوقت نفسه، ورغم أنّي بحثت كثيرًا، وناقشت كوبيين كثيرين، وذهبت إلى هناك مرّات عديدة، شعرت أنّ رؤيتي من خارج الوضع ستكون ذات سحر خاص. بحكم أنّي لم أعش هذه القصّة من الداخل، سمح لي هذا بتقديم شيء ذي طابع أكثر بيداغوجية ممّا لو قام كوبي بتحقيق الفيلم، لأنّ هناك أشياء كنت بحاجة إلى صوغها. ارتباطًا بهذا، لاحظت أنه عند عرض الفيلم في هافانا، كانت ردود فعل الناس تصدر حتى قبل التعبير عن الأشياء، لأنّهم لا يحتاجون إلى المراحل كلّها لرؤية ما أودّ قوله في الفيلم.

أعتقد أن هذا هو الفرق في تخيّل الأشياء وتصوّرها. على أي حال، بالنسبة إلى الجمهور غير الكوبي، ربما يكون ذا فائدة أيضًا. من جهة أخرى، يعجبني حقًا أن يكون الفيلم وسيلة لاكتشاف الأشياء. كمتفرّج، وكمخرج أيضًا، أحبّ هذا الشعور: الاعتقاد بأنّ لديّ فرصة للانغماس في إشكالية بلدٍ مثل كوبا. بلد بالغ التعقيد، يختلف تمامًا عن بلدي. هناك أيضًا الحصول على هذا المكان المميّز لشخص يُنجز تحقيقًا، كما يفعل الصحافي، ولو قليلاً. لكنّ اهتماماتي مختلفة عن اهتمامات الصحافي. ما أبحث عنه هو الإنسان.

أود أيضًا أن أناقش معك مسألة الفضاء المغلق الحاضر في معظم أفلامك، وتحديدًا بخصوص الإيقاع الذي أجده حاسمًا بالنسبة إلى هذا النوع أكثر من غيره.
نعم. أنت على حق. الانتباه إلى الإيقاع ضروريّ بشكل خاص في نوع الفضاء المغلق.

كيف ومتى تعمل على الإيقاع في أفلامك؟
منذ الكتابة بالتأكيد، لكن أيضًا بطريقة خاصة أثناء التصوير، لأنّي أصوّر دائمًا بكاميرتين، وبثلاثٍ أحيانًا، وأحرص على تصوير المَشاهد من البداية إلى النهاية. هكذا، تدريجيًا، يُسلّم الممثلون أنفسهم لمنطق المشهد، ويتشرّبون إيقاعه الحقيقي. نحن لا نعمل وفق طريقة تركيز الحقل على شخصية، والحقل المضاد على أخرى، بل نسترسل في العمل بالكاميرات على المشهد من البداية إلى النهاية. هذا أكثر إثارة للاهتمام مع الممثّلين غير المحترفين، لأنهم لا يحتاجون إلى أن يقولوا لأنفسهم كلّ مرّة: "وهنا. كيف نفعل؟ في أي مستوى من العاطفة يجب أن نكون؟". هم، ببساطة، داخل منطق المشهد.

ماذا عن المونتاج في هذه النقطة؟
لديّ انطباع بأن المونتاج ليس المرحلة الحاسمة. أثناء المونتاج، أُزيل مشهدًا، من وقت إلى آخر، أو أشذِّب الحوار. لكن، لم يكن لديّ انطباع مرّة بأنّي نجحت في إنقاذ شيء ما بفضل المونتاج. عندما لا تحصل على شيء أثناء التصوير، فلن تحصل عليه أبدًا. ربما سبب ذلك هو أنّي لا أستطيع تصديق ذلك، لكني أميل إلى التخلّي بسهولة شديدة عن مشهد لم يعمل جيدًا، لأنّي لا أريد تقليبه في الاتجاهات كلّها أثناء المونتاج. ربما أحتاج إلى مشهد كهذا من وقت إلى آخر، لضرورة التسلسل السّردي، فأكون مُجبرًا على محاولة الحصول على أفضل ما فيه. لكني لا أملك ارتباطًا كبيرًا بهذا النوع من العمل، عمومًا.

لكنّ هذا يتطلّب صدقًا كبيرًا مع النّفس عند التّصوير، كي تقول: هذا المشهد لا يعمل.
نعم بالتأكيد. علاوة على ذلك، عندما لا يعمل مشهد ما، لا أصرّ على محاولاتٍ إضافية لـ"غَصْب" الأشياء. عادة، أعيد التفكير في المشهد بشكل مغاير، وأبدأ من جديد بتصوّر مختلف.

المساهمون