لن يروي أحدٌ هذه القصة

12 يونيو 2019
(جيمس بيرن في قراءة شعرية بالمكسيك، 2018، تانيا فيكتوريا)
+ الخط -

بطاقات بريدية

طوال الليلِ، كان القائدُ بضحكته الشريفة الرفيعة،
يقشّرُ رائحة اليوسفي العذبة
من خصر نادلة
سيُغلقون عينيها بالطين.

دخل الجنودُ الأطفالُ البيتَ
اعتقلوا عامل الحديقة،
ولديه، جدّه الحامي،
أطلقوا عليهم الرصاص متقرفصين
في ظلالهم.

أمٌّ تحسبُ التوبة على مسبحتها.
الجنينُ في بطنها صار له عينان.

القضاة، أركان الجيش
وضعوا اللوم على الطبيعة.
ريحٌ سمومٌ عظيمةٌ بغتة
سبّبتْ الحريقَ المؤسف. تاريخ الريح،
أو تاريخ نسيان النار غفلاً عن ذكر الأبواب الموصدة
أو خزّانات الغازولين الملقاة كجذوع الأسنان.
وجهُ القاضي الحكومي المتجمّد
أدانَ الشاهدةَ المترمّلة حديثاً
على عجزها العاطفي.

جُرحت القريةُ.
عقربان تتعاركان في بوتقة رمل.
تُلهبُ علامة الاستفهام لذيليهما الهواء.

بنى الأولادُ بيت لَعبٍ ضخما
من ركام الدّعامات للمركّب المهدّم.
جنرالان طفلان يجمعان فريقيهما
للُعبة البنادق والسيوف.
ثمّ الفرسنة
بعد ذلك رت-تات-تات من أفواههم
كي يجعلوا البنادق تبدو حقيقية
من أجل آباء الثورة المتفرّجين
يهتفون ويهلّلون لفريقهم.

عند الجدار البعيد للمسجد الذي قصفته المدافع،
مكبّرُ الصوت يُعيد ما قاله الرسول
عن الغفران أثناء أوقات الغضب.
لكنّ المؤذن يُجرُّ من ياقته على التراب
يتصدّعُ ويتصدّعُ ثانيةً
على زمّارة صوته.

بطاقتان بريديتان ليستا للإرسال.
عيون خنفسائية تحت صفحة القمر الفضية
تتزلزل فوق وجهها البحري المجعّد.
هيئةُ الهيكل العظمي
الذي يزورها ليلاً،
ذراعاه الصناعيتان العاليتان،
ما زالتا
تستجديان
الرحمة.

في القاعدة العسكرية الجبليّة،
خمسة رجال يُقادون إلى أسفل المنحدر
ثمّ عميقاً في أخاديد أجمة.
لن يروي أحدٌ هذه القصة.
الجبلُ ساكنٌ عظيم.
خرساء شهيّة المجلجلين،
فقط زفيفُ أوراق الزيتون للسماء.


■ ■ ■


واحد/ آخر

واحدٌ يتنهّدُ بعمق في الهاتف
آخر يسكبُ رملَ القاتل الأجير المتحرّك

واحدٌ يغادرُ المعسكرَ وحيداً كرصاصة
آخر يملأ الأحواضَ البيضاء بالكيروسين

واحدٌ يُمسحُ من زجاج الحدود
آخر يحرسُ من ظُلمة الأشجار

واحدٌ يُخشخشُ كشتبانَ العدو
آخر يتخيّلُ الموتَ في طريق الهجرة

واحدٌ يضربُ الجالسَ على آلة البيانو
آخر يتفيّأ ظلًّا تحت شجرة تين

واحدٌ يميّز الدماء من صفارة الإنذار
آخر يلوّح بالقيود

واحدٌ يلهو بالتراب بين يديه
آخر يحرق المعسكر


■ ■ ■


زعتر الصحراء البرّي
(إلى سَنديب)

من أجل غُصينات زعترك الصحراوي البرّي
نمضي إلى مدينة صبراتة حديقة البحر
كأشباحٍ تعبرُ أسواراً إغريقية رومانية
أماكن للطبخ
بروجاً حصينة
مسرحها المقعّر المرتعش
ذهبيّ كالغسق
نعيدُ تمثيل الجوقة اللامرئية
حاملين بعيداً
خليج الشتاء المنعش
خلفيّة إلى المغرب القصيّ
فيه أغطسُ قدميّ
بين الصخور الخشنة

بعد ذلك
ذهبوا بنا إلى المتحف الأبيض
حيث غنّى وجهي
في بيت الممثل التراجيدي الزجاجي
الذي لم تشفه ولم تفتنه
قيثارة باخوس الحاضرة
أو أوشحة الأفاعي الملبّدة بالرضا
جلستُ في قاعة فسيفساء الحسناوات الثلاثة
أتشمّمُ علقم اللّحم البشري الملطّخ بالقطران

حُلمُ يقظة أفزعتهُ إطلاقات رصاص
(عرسٌ آخر مؤجّلٌ؟)
نهرعُ إلى الحافلة
في سحابة من غبار
إلى بعض هدوء
مدينة صرمان المصابة
أطراف الشقق البنّية المقصوفة
ما زالت ترتدي آثار المجزرة
أمراض كينوناتنا قديمة
كقِدَم جدائل لحية جوبيتر

تماماً في منتصف الشارع التي تلسعه الشمس
امرأةٌ محدودبة الظهر تحملُ أكياساً من الحبوب
سائق ُحافلتنا يرفع صوت المنبّه ليحذّرها
تُسقطُ نصف حملها
ثمّ تلتفت إلى الوراء على مستوى نظرنا
محدّقة من تحت وشاحٍ أسودَ
واضحة وهائلة في صمتها

من أجل زعترك الصحرواي البرّي
نأخذ طريق بوّابات التفتيش
أسفل جبل نفوسة
(طريقٌ روماني قديم
مستقيمٌ كحبلٍ مشدود)
على جانبه يندفعُ ذودُ إبلٍ
مبتهجة أنّ لا أحد يمتطيها
من النافذة الغربيّة الملطّخة
طوال الطريق إلى بوّابة التفتيش
خردة دبابات
ملقاة على جانب الطريق
بذلات عسكر مقلوبة
فتحات رصاص تنزف
وسيارات دفع رباعيّ محروقة
مجمّعة خمسة فوق بعض
حيّة كرمادٍ في الدرب المغبرّ
في هيئة مستشاري
الحرب والجوع

عند بوّابة التفتيش
جنودُ جيش ليبيا الحرة
يرفعون بنادق الكلاشنيكوف
متوترون بخوف قديمٍ
في البداية يتحلّقون حول المركبة
إلى أن نصرفهم عنّا بإشارات النصر
وضحكة عاشور العسليّة.

على الطريق الجبليّ الملتوي
يفرن ترحّب بك
منقوشة بالإنكليزية
الأمازيغية والعربية
الحمد لله على السلامة
ارفع رأسك فوق... أنت ليبي حرّ
مقطورات موضوعة على ركائز
أنابيب غاز متشقّقة
وعربات يدٍ مطليّة بالرمادي
أمام متجر مواد البناء
حيث صاحب المتجر يدقُّ بقلمه
على حافّة النافذة
وولدٌ يملأ عربة اليد يقذائف الهاون الميتة

من أجل زعترك الصحرواي البرّي
الغاسرويون1 يسترجعون عَلَمهم
(قوس قزح من أصفر أزرق أحمر وأخضر)
الغاسرويون الذين زرعوا هذا الجبل
لثمانمائة عام
الذين نجوا من الحرب
بالسكن في الكهوف القديمة
تحت الحجر الأساس للمدينة العتيقة
القذّافي منع الغاسرويين
أحرقَ عَلَمهم
منعَ عنهم الطعام والماء
يقول سالم
يتنقّلُ برشاقة عنكبوت فوق الصخور المقلوبة
يشيرُ إلى طريق
لا يصل ولم يصل
منذ ثمانمائة عام

ومن هذا الطريق
أركع على ركبتيّ
تاركاً ورائي درب المهرّبين المهجور
حيث تغنّي أشجار الزيتون
من كتاب تراتيل الصحراء
والكهوف تمسك برائحة
الذبيحة التي سلخت تواً
وينهض الكَنيسُ
من الرمل المموّه

مذاقُ المستقبل
تاريخٌ
محفوظٌ في داخل صندوق أخضر
بركانُ عطرٍ
منحوتةُ ريحٍ
محنّطةٌ بأوراقٍ
كشجرة....

افتحيها؟


* James Byrne شاعر بريطاني من مواليد عام 1977. تتميّز أعماله بحضور الرحلة ومغامرة المعرفة ونعثر فيها على إشارات وصداقات وتجوال بين بورما وليبيا وسورية، كما أن نصوصه تتّسم بالصلابة اللغوية وتنويع المضامين والخروج على مواضعات المركزية الغربية. من إصداراته: "دم/سكر"، و"أسطورة القبائل المتوحشة"، و"أسطورة الأمم المتمدنة"، و"يرقص كل ما هو محطم"، و"مسكوكات نقدية بيضاء" (الصورة).

** ترجمة عاشور الطويبي

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 نسبة إلى الغاسرون؛ وهي قرية من قرى يفرن الليبية القديمة تسمى بالعربية القصير/ المترجم

المساهمون