لم يكن هراً عادياً

02 مارس 2018
+ الخط -
عند كورنيش الدوحة، خلال زيارتي لهذا البلد الرائع قبل أيام، وقرب مرسى السفن، لفت انتباهي بمشيته التي لا تخلو من الكبرياء والاعتداد بالنفس، يثبت أركان وطنه الصغير هنا وهناك، يتبوّل على أعمدة الإنارة تارة وعلى حبال المرسى تارة أخرى، واثق الخطى كأنه أسد يحدّد مسار مملكته في الغابة، إنه الهر الأقرط كما سميته، بسبب فقدانه جزءاً صغيراً من إذنه اليسرى. نسيت السفن الجميلة ومراكب الصيد التي كانت تزيّن المرسى ولون البحر وهو يعانق السماء بغيوم متفرقة ليرسم لوحة من صنع الخالق لا مثيل لها. نعم نسيتها وأنا أراقب الأقرط وهو يحاول جاهداً أن يحافظ على حدود مملكته التي رسمها بنفسه. فتارة يراقب الصيادين وهم يلقون بصناراتهم في البحر. أيهم يصطاد سمكة كأنه يقول لهم لا يحق لكم الصيد في مملكتي. وتارة أخرى يتقمّص شخصية النمر المرعب حينما يشاهد هراً غريباً يحاول الاقتراب من حدود منطقته.. يقوس ظهره.

يقوس ظهره ويكشر عن أنيابه ويظهر مخالبه، حتى إن حجمه يبدو أكبر ليرعب الأعداء والمتطفلين. فينسحب أغلبهم خوفاً منه. لكن، وأثناء شغفي بمراقبة الأقرط في ذلك اليوم، خاض معركتين، إحداها مع هر فتي حاول الاقتراب من منطقة الأقرط، وكانت النتيجة ضربة مباشرة نحو الوجه تلقّفها من الأقرط أسرع من البرق، أفقدته توازنه، ولاذ على إثرها بالفرار. عندها عاد الأقرط منتصراً، يعيد ترسيم حدود منطقته من جديد، لينشر رائحته هنا وهناك. بعدها اتجه نحو صياد ربما يعرفه فألقى له الأخير بعض الطعام.
كنت أحاول نسيان هذا القط بتصوير المراكب والبحر، خصوصاً أن الساعة الذهبية قد بدأت، وأن الشمس مالت نحو المغيب، لترسم تكسّر الأمواج الصغيرة المتوهجة كأنها شموع صغيرة تتوقّد مع تناغم الموج وهو يتكسر عند حافات المراكب. كل شيء بات مغرياً لأي مصوّر يعشق التصوير؛ الهدوء، البحر، الشمس، لكن متطفلاً آخر شقّ صمت السكون، وقطع سلسلة أفكاري، كان مختلفاً عن الأول، حجمه أكبر، وتفاصيل جسده وعضلاته البارزة تنمّ عن القوة، ولونه الرمادي القاتم ومشيته ونظراته الحادة. بكل هذه المؤهلات دخل منطقة الأقرط، من دون استئذان، الذي بدوره أحس بأن الوافد الجديد مختلف. ولهذا لم يهاجم كما فعل في المرة السابقة. قوس ظهره وزمجر وأصدر أصواتاً تحذيرية مرعبة. حرّك ذيله يميناً وشمالاً. إلا أن جميع هذه التحذيرات لم تجدِ نفعاً، فقد ظل الهر الرمادي الدخيل يمشي باتجاه الأقرط كأنه غير موجود. متر واحد فقط يفصل بين الهرين اللذين راحا يصدران الأصوات العالية والحركات الاستعراضية لدخول المعركة الحاسمة.

استمرا على هذا الحال لبضع دقائق، أدركت خلالها أن الهر الدخيل أضخم من الأقرط وخمنت أيضاً أن الأقرط لم يكن شاباً بقدر الهر الرمادي الذي انطلق كالسهم باتجاه الأقرط ليصرعه أرضاً بضربة واحدة. تبعها اشتباك قوي ودحرجة على الأرض تطاير خلالها شعر القطين المتصارعين في الهواء بسبب العض والضرب بالمخالب. 

اشتد العراك والصراخ، كانت الغلبة للقط الرمادي، ضرباته كانت مؤثرة وقوية أثخنت الأقرط بالجراح، ما دفعه إلى أخذ وضعية الدفاع، مستلقياً على ظهره، وفارداً مخالبه يضرب بها كلما حاول الهر الرمادي الاقتراب منه. عندها حاولت التدخل وفضّ النزاع بينهما لسببين، أولهما أن الأقرط بات صديقي، وأنا أراقبه منذ ساعات، وهو على حق لأنه يدافع عن منطقته، وثانيهما الرأفة بالحيوان. اقتربت منهما وضربت قدمي بقوة على الأرض، لم يكترثا لوجودي وواصلا العراك. حاولت ركل القط الدخيل لإنهاء الأزمة، لكن الأقرط عاجله بعضة قوية أدمت يده فانسحب الرمادي يمشي على ثلاثة أطراف، تاركاً الأقرط ومنطقته التي استمات من أجلها. نظرت إلى صديقي العجوز وهو يلعق جراحه، كانت نظرة احترام وتقدير لهذا المخلوق الضئيل الذي وقف بكل شجاعة وبسالة مدافعاً عن حدود أرضه التي رسمها بدمه. كان يبادلني النظرات كأنه يقول لي إن هذه الأرض تستحق كل هذه الجروح بل أكثر!

دلالات
20C127EC-6E06-4C03-A37C-B5DB5D38EE63
20C127EC-6E06-4C03-A37C-B5DB5D38EE63
قاسم العلي

صحافي عربي أولاً، وعراقي ثانياً. عمل في وسائل إعلام عربية وعراقية مختلفة. يقول: "بداية التغير الحقيقة عندما تغلق أسواق بيع الأقلام والذمم".

قاسم العلي