يرتبط الشرب الجماعي للقهوة بتاريخ الطريقة الشاذلية التي أسّسها الشيخ أبو الحسن الشاذلي (1196 - 1258). ومن المتعارف عليه في الأوساط الصوفية أنَّ هذا الأخير هو من أدخل احتساء القهوة في طقوس العبادة آنذاك.
إذ يعتقد أن هذا المشروب كان يعينه على السهر وينشّطه للصلاة وترتيل القرآن وتلاوة الأوراد الخاصة بطريقته. وهناك نصٌّ يؤكّد أن أبا الحسن الشاذلي دلّ مريده ووريثه، عمر بن علي، عند سكرات الموت، على المكان المحدّد حيث وجد القهوة وحثّه على لزوم شربها أو لوكها: "عند موته أعطى أبو الحسن لمريده كويرة من الخشب وأمره أن يسافر ولا يتوقّف إلّا في الموضع الذي لا تتحرّك فيه الكويرة. سافر المريد حتى بلغ مدينة موخا، الميناء اليمني، وبرح بها".
غير أن سلطان المدينة أمر بنفيه في جبال عصاب شمال شرق زبيد. عكف عمر بن علي على التغذّي هو وثلّة من أصحابه بثمر شجرة القهوة وتحضير المشروب بحبّتها.
بلغ الناسَ خبرُ قدرة المشروب على مداواة بعض الأمراض فتوافدوا عليه. وحينها عفا عنه السلطان، فنزل من جديد الى موخا بالقهوة التي كانت سبب شهرة المنطقة إلى يومنا هذا... وإليها تعود قهوة "الموكا" الشهيرة.
وقد دُفن هذا الولي في نفس المدينة، ومن بين أقواله الشهيرة: "القهوة لِما شُرِبَتْ له"، وهذا يحاكي حديث الرسول "ماء زمزم لما شُرب له"، فارتبطت بعض الشعائر عند صوفية اليمن بمشروب القهوة.
من بينها مثلاً تلاوة الاسم الإلهي "يا قوي" مائة وست عشرة مرة، وذلك لأن لفظة قوي في علم الأرقام الذي له أهمية كبرى عند الصوفية، لها نفس القيمة الرقمية لكلمة قهوة، وبالتالي تُشكّل نفس القوة التي تَنتج عن شرب القهوة، ولها نفس الميزة؛ حيث إنَّ مِن بين معاني كلمة قوي أن تكون المعدة فارغة وهو معنى أساسي للقهوة. كما كانوا يرتّلون سورة "يس" عند شربها، أو يصلّون على النبي.
ومن بين العادات التي ما زال معمولاً بها حتى اليوم في مقاهي العالم تقديمُ القهوة مع كأس ماء بارد، إذ كان الشيخ أبو الحسن الشاذلي يقرن شرب القهوة بالماء؛ حيث إن مزاج أو طبيعة القهوة ساخن جاف يكسره مزاج الماء البارد الرطب. وهذا منصوص عليه في نظرية الطبائع لـ أبقراط، وفي الطب الصيني القديم.
بعد ذلك، صارت القهوة تُشرب في العالم الإسلامي، في مجالس الذِّكر أو خلال المولد النبوي. في القاهرة بالجامع الأزهر، وخصوصاً في الجناح اليمني، كانت الشعائر مقرونة بتناول القهوة التي كانت تدور في وعاء بين المريدين، وكان رئيس الجلسة يأخذها من جرّة من طين.
فُتحت بعدها ما سُمّيت بدور القهوة في باحة الحرم الشريف بمكّة، وحول الجامع الأزهر في القاهرة، حيث كانت القهوة تُقدَّم لرجال ونساء من الأدباء والأديبات وأهل الصوفية، ورافق طقس احتسائها السماعُ الصوفي أو إلقاءُ الشعر أو لعبُ الشطرنج، وهذا ما دشّن الدور الترفيهي للقهوة أو بيوت القهوة في تسمية ذلك الزمان.
من مكّة الى القاهرة ومروراً بالقسطنطينية ودمشق، بدأت دور القهوة تتعرّض للهجومات، بالتحريض عليها أو بالفتاوى الظلامية. وبين عدو وصديق ومناصر ومهاجم، حصل أن مُنعت هذه الدور، خصوصاً خلال القرن العاشر الهجري، فكُسرت البيوت واشتعلت المعارك والمشادات، وتم تدمير بعض بيوت القهوة وتعرّض شاربوها للضرب والتعنيف ومنهم من قُتل.
وليس من الغريب أن يحصل ما حصل إذا عرفنا أنَّ مفردة "قهوة" من بين أسماء الخمر، ففي لسان العرب يقول ابن منظور: "القهوة الخمر وسُمّيت كذلك لأنها تُقهي شاربَها عن الطعام أي تَذهب بشهوته"، وهي من الأضداد تعني الشيء وعكسه.
كما أن مجالس القهوة تحاكي مجالس شرب النبيذ كما نعرفها من الكتب التراثية، وبالخصوص من كتاب "أدب النديم" لكشاجم من القرن الرابع الهجري، والذي يشرح بالتفصيل مهمّة النديم في تحضير المجلس واختيار الخمور المعتّقة وإدارتها في كأس واحدة بين الشاربين، وانتقاء المغنّين والشعراء والعارفين بالأخبار والطرف والنتف والمختصين بعلم الجواهر واللغة والعطور ولاعبي الشطرنج وغيرهم، حتى يبلغ صاحب المجلس مبلغه من الطرب واللذة، حتى إنَّ مهنة النديم كانت تورث أباً عن جد.
ومن بين الأشعار التي تستحضرها الذاكرة في القهوة أبيات الحسن بن هانئ: "يا خاطِبَ القَهوَةِ الصَهباءِ يَمْهُرُها/ بالرَطلِ يَأخُذُ مِنها مِلأَهُ ذَهَبا ... قَصَّرتَ بِالراحِ فَاحذَر أَن تُسَمِّعَها/ فَيَحلِفَ الكَرمُ أَن لا يَحمِلَ العِنَبا".
على أيامنا، وفي مكان يمثّل الطريقة الشاذلية بتونس، هناك مقهى يظلّ لصيقاً بمقام أبي الحسن الشاذلي اسمه "مقهى الحصائر"؛ حيث يشرب زوّار المقام القهوة، جالسين القرفصاء، قبل الشعائر والصلوات لكي يجدّدوا طاقتهم. مشروب القهوة نفسه يُدعى هناك الشاذلية كما في الجزائر أيضاً، نسبة إلى الولي.
ومن الطرائف، هنا، قول مدام دي سيفينيه عن معاصرها جان راسين، الكاتب الفرنسي، إنّه "سوف ينسى كما ستُنسى القهوة"؛ فلا راسين نُسي ولا القهوة أيضاً.
* شاعرة وروائية مغربية مقيمة في باريس