لم تُنس "أم الميش" في زحمة هذه المدينة

05 فبراير 2015
ضاق منزلهما بكل هذا الحب (Getty)
+ الخط -
يملك جاري في عين الرمانة أبو ميشال وزوجته فرناً للمناقيش. سمى الزوجان فرنهما بـ"فرن أبو الميش"، ولو عاد الأمر إليّ لما سمّيته إلّا "فرن الحب". يتشاركان على صنع كل منقوشة على حدة.

لا أظن أنّ المنقوشة الواحدة تتطلّب شخصين لصنعها، ولكن يبدو أنّهما يستمتعان بذلك. يخيّل إليّ أحياناً أنّهما لم يفتحا الفرن للاسترزاق منه، ولكن ضاق منزلهما بكل هذا الحب، فنقلاه إلى مكان آخر.

تخطّت "أم الميش"، كما يسميها زوجها، الستين من عمرها. تلبس ثياباً فضفاضة، غطّاها الطحين من أعلى إلى أسفل. تربط شعرها الذي غطّاه الشيب، ولا تستعمل أي مستحضرات تجميل. تبدو أكبر سناً من زوجها. يبتسم الاثنان، ولكن الابتسامة ليست واحدة.

تبذل أم الميش جهداً كي تبتسم، وتجعلها الابتسامة تبدو أكبر سناً وأكثر تعباً. أمّا أبو الميش، فيبدو أنّ ابتسامته هذه وُلدت معه. هو من الأشخاص الذين تخاف عليهم لحظة تلتقيهم. لا تعرف لماذا، ولكنك تخاف عليه.

أتأمل المرأة الستينية، ويخيّل إليّ أنّها نسيت أنوثتها منذ زمن. أثبّت نظري على القدمين، وأكتشف أنني مخطئة. تسألني: "رايحة عالغربية"؟ أهز رأسي موافقة، ولا أبعد نظري عن القدمين.

لوّنت أم ميشال أظافر رجليها باﻷحمر القاني. أحاول أن أربط بين الأحمر الأنيق وبين الابتسامة التعبة. يخيل إليّ أنّ الجارة لا تكبر دفعة واحدة. تبدو آثار الزمن على الوجه والشعر والابتسامة، ولم تصل إلى القدمين بعد.

بعد دقائق، يخيّل إلي أنها تتصّنع التعب. تجلس على الكرسي اﻷقرب إليها. تمد رجليها، وتنظر إلى أبو ميشال. يفهم الزوج سريعاً، يضحك، ويقول "شو هاﻷحمر الحلو يا أم الميش"، فتضحك أم الميش بخجل. على الرغم من العمر والتعب، تستطيع أم الميش أن تكون اﻷنثى التي تريد، متى أرادت هي ذلك.

أُصيبت أم الميش بفالج. تلازم البيت منذ اﻷسبوع الماضي. افتقدناها جميعا، ولكننا لم نتألم. اعتبرنا مرضها طبيعياً، وهو حصيلة العمر والتعب. آلمنا أبو الميش. أراه جالساً أمام فرنه صامتاً. ينظر إلى البعيد، ولا يضحك كعادته.

سألته عن أم الميش، فقال: "أم ميشال صارت أحسن". لم تعد "أم الميش" بعد مرضها. المرض قاسٍ، ويسلب منا الكثير. حتى أسمائنا يجعلها جدية، واضحة، ولا غنج فيها. 
يسلّم الجميع على الزوج، ويسألون عنها.

سأل عنها صاحب الدكان وزوجته، الشاب الذي يعمل في محل التليفونات القريب، والميكانيكي. سأل عنها جارنا النجار، وأبناؤه الثلاثة بالتناوب. سأل عنها الجميع. حسدتُ أم الميش. استطاعت فعل ما نحاول جميعنا عبثاً فعله هنا.

لم تُنس أم الميش في زحمة هذه المدينة. أم تشبه جارتنا هناك في الضيعة، وهذه المدينة أيضاً تشبه ضيعتي. لن أسميها مدينة. هي تماماً مثل ما سماها الشاعر عصام العبد الله، "ما في مدينة اسمها بيروت. بيروت عنقود الضيع".
دلالات
المساهمون