لم تنته المذبحة بعد، فاستمعوا إلى القصة، ولا تعقبوا

16 اغسطس 2015
لم تنته المذبحة بعد، فاستمعوا للقصة، ولا تعقبوا (Getty)
+ الخط -
(1)
لم تنته المذبحة بعد، فاستمعوا إلى القصة، ولا تعقبوا.


(2)
ما قبل رابعة:
لا أتذكر التواريخ جيداً، لذلك فقد كانت درجاتي المدرسية متوسطة فيه، على الرغم من أني كنت أستمتع دوماً بحكايات "الأبلة" هناء جرجس عنه، فهو مليء بالإثارة والتشويق، حتى إنني لم أتذكر تاريخاً كتاريخ الغزو الفرنسي لمصر، مثلاً، إلا عندما أخبرتني "الأبلة" نفسها أن أبدل كفي، الأيمن إلى اليسار، والأيسر إلى اليمين، ثم أنظر إلى صفحتيهما وأقرأ ما خطته التجاعيد فيهما من أثر إطباق الإبهام على من سواه والعكس "1881".. لذلك أنا لا أذكر اليوم الذي قتل فيه صديقي محمد خيري جميل، أو اليوم الذي سمعت فيه الخبر، فقبحاً لزمان يقتل فيه صديقك فلا تسمع بمقتله إلا بعد الدفن وانتهاء أيام العزاء ثم لا تزور قبره.

محمد خيري جميل كان من السابقين الأولين، تعرفت عليه أثناء نشأة ظاهرة المدونين الشبان، فأسسنا، وإن شئت فاستثنيني من "نا"، "رابطة مدوني الفيوم"، وكنا نناقش في هذه الرابطة أشياء من قبيل "المحاكمات العسكرية للمدنيين" الذين كان أبرزهم خيرت الشاطر، أو التضامن مع الزميل الافتراضي عبد المنعم محمود صاحب المدونة التي كانت تسمى "أنا إخوان" عن طريق وضع "بوستر" يحمل صورته ورابط مدونته في أعلى يمين مدوناتنا، أو "حملة المليون توقيع لإسقاط حسني مبارك" التي أطلقها أحمد دومة صاحب المدونة التي كانت تسمى أيضاً "شاعر إخوان"، والتي ربما لم يسمع بها إلا أعضاء الرابطة والـ "ويتر" الذي كان يأتي بالشاي لنا جميعاً، نظراً لأن الشاي هو أرخص المشاريب في كافتيريا نادي المعلمين، وكنا جميعاً نأخذ هذه النقاشات على محمل الجد، وكان عمري أيامها 15 سنة، تقل أو تزيد قليلاً.

ثم جاءت الدعوة إلى "قافلة كسر الحصار عن غزة" في السادس من أكتوبر/ تشرين الأول لعام 2008 أو العاشر من رمضان الموافق لنفس العام، لا أتذكر كما قدمت، وكانت المرة الأولى التي يتكشف لي فيها عن حقيقة هذا الصديق الجميل.

تجمعنا جميعاً ليلاً في بيت الأستاذ أحمدي قاسم بمركز سنورس، ثم تحركنا قبيل الفجر في "ميكروباص" لست أعلم من الذي استأجره، فلم أدفع في هذه الأجرة شيئاً، وأثناء التحرك رأيت محمد يحمل "كرتونة" فيها عدد من زجاجات الزيت وأكياس السكر، وقد كان فرحاً مقبلاً، حتى أنه لم ينتبه لما يحمله فانفرط بعض ما فيه، ظنناً منه أن زجاجات زيت التموين التي يحملها كانت لتصل إلى الجانب الآخر من الجدار فتكسر الحصار، لكن الحقيقة أن زيته المدعوم من الدولة لم يصل إلى الجانب الآخر من "كارتة" طريق الإسماعيلية الصحراوي.

قتل محمد مسحولاً ومرجوماً في أحداث ماسبيرو 2013، والتي علمت في ما بعد أن صديقي "محي" كان في هذه الأحداث إلى جانب الحشود التي قتلت محمد.

كان صديقي وحيد أمه الأرملة، وأباً لطفلة عمرها لا يعد بالأشهر، وإنما الأيام أو الأسابيع، فلا أعرف هل تركه لأم بلا زوج، ولا أب، ولا ابنة، ولا ابن، ولطفلة يتيمة، وأمها كما أمه أرملة، يضاعف من المأساة؟ أم أن المأساة في موته ليس إلا؟!

اقرأ أيضاً: رابعة.. "يوم ما الكون قفل فجأة"

(3)
من مأساة ماسبيرو، إلى مأساة "المنصة" حيث قتل صديقي ما بعد العشرين، ومسؤولي في "اللقاء" الذي هو اجتماع أسبوعي كان أهلنا من الإخوان يرسلوننا إليه أطفالاً، وقائدي في فرقة الكشافة بمركز شباب مدينة الفيوم، و"الكابتن" خاصتي في لعبة الـ "كونغ فو" التي لم ترق لي لعنفها، أو لضعفي عن منازلة من هم في سني، أشرف شعبان عبد الحميد.

أشرف كان كما محمد خيري الابن الوحيد لأمه وأبيه! وكما محمد خيري أيضاً، لم أزر قبره ولم أشأ أن أطلع على ملابسات مقتله.. لكني قبل أهجر هذا البلد يوماً، سأزور القبور جميعها!في "المنصة" كذلك أصيب أخي محمد بطلقة في البطن.. سنعود لمحمد مرة أخرى.

(4)
رابعة:
الرابع عشر من أغسطس/ آب، للعام القبيح 2013، لم أحتج لمبادلة أكفي لأتذكر هذا التاريخ، ولا التاريخ الذي بعده بيومين، ففي هذا اليوم كان يرقد تحت المنصة، هامداً، أبو عبيدة كمال.. واسألوا أطفال الحي عن أبو عبيدة، وأطفال العائلة عن العيد في بيت الحاج كمال.

كان أبو عبيدة من القرابة والنسب، إليَّ، قريباً، ومن الصداقة صديقاً، ومن الجيرة جاراً، ومن السن نداً، لكنه من الحياة أقل حظاً مني، إن كان فيها حظ! فمن منكم فقد نده وقرينه وقريبه لأبادله البوح عن الفقدان والخوف، فإنه، إن وجد، دون البقية ستقتله الكلمات ألماً، أو لماذا نبوح أصلاً إن كان البوح يؤلمنا؟

على حائط قريب من بيته، استعنت بالرسام أحمد نجيب، ليرسم لأبو عبيدة صورةً عليه، حتى إذا مرت أمه على الصورة، ألقت السلام على ابنها، وقد كتبنا عليها "سلام على السابقين إلى ربهم".

أم أبو عبيدة امرأة حنون، كنا ندخل عليها أطفالاً في أي أيام الإسبوع شئنا، نأكل، أو نشرب، فلا تعبس في وجوهنا، كان العقاب الوحيد الذي تستخدمه معنا، أنه لو أعدت لنا أكلاً في لقاء الحي الشهري، فلم نجهز عليه، يكون أكل الشهر الذي يليه هو الفول!

أبتسم وأنا أكتب هذا الآن، على الرغم من أنها حين أعدت لنا الطعام حين مرت علينا في الشارع ونحن نرسم صورة أبو عبيدة، لم أبتسم، ولم أستسغ الطعام الذي كنت آكله في ما مضى نهماً.

اقرأ أيضاً: ليس خطأ

(5)
نعود إلى محمد، فلا نقول إلا إن البوح ليس له دافع إلا الخوف، وليس له غرض إلا إيلام المباح إليه، فإننا لو أوجعنا الذين نبوح إليهم لخافوا على أنفسهم، فربما دفعهم هذا الخوف من مصيرنا للتوحد معنا فيشتد عودنا ولا نتكسر فرادى، أو على الأقل أشفقوا علينا فلا يكونون ظهيراً للمجرمين، لكننا يا محمد لم نزل نبوح صراخاً ودماً على المقيم والمارة، فلا أحد يشفق، ولا يخاف، وإن خاف فإنه جبان، يجلدنا نحن بخوفه، لا الظالمين.

وإن البوح يا صاحبي عورة، وإن رثاءك يا محمد عورتنا، فلسنا مطيقيه فنكتمه، ولسنا من ينزف دمعاته لجبان، فاعذرني يا أخي، إن بكيتك في غير موطن البكاء، أو إن تكلفت الفخر بمقتلك أغطي به انكسارنا، فأنت تعرف أن الفخر حقيقة انتشال أخيك من بئر الموت، لا أن يغرق فيه، وأنت في مكانك تنوح، ذلك هو العجز.

(6)
ما بعد رابعة:
أنا أحلم بأوروبا، أو العالم الجديد هناك في كندا، أو أستراليا، أو أي مكان آمن فيه على نفسي، ويحترم فيه أفكاري، وتصان حريتي وكرامتي.. أنا محمل بالأفكار التي تجعلني ساخطاً على هذا العالم، كل العالم، أؤمن بكلام على نغمة أن الرأسمالية لا تعرف العدل، ولا تعرف الحرية إلا من جانب، وتجهلها من جوانب أخرى، وأنها مسخت كرامة الإنسان باقتصادها المدفوع بأشلاء أطفال العالم الثالث، ومبيعات الأسلحة والبيبسين.. لكن حين المقارنة بمصر؟

حين المقارنة بمصر، وجد أحد أبناء خالي أن السودان هي وطن أحلامه وأرض الميعاد، فحزم أغراضه وسافر إليها فرحاً، من دون أن يخالجه شعور التيه، أو أنه في حقيقة الأمر منفي طريد، فلحقت به أمه وأخواته، لا يردن أن يفقدوه مرة أخرى، بعد تلك الأشهر الستة التي قضاها في زنازين سجن دمو..

اقرأ أيضاً: رابعة.. بين الشعور بالذنب والعجز

(مصر)
المساهمون