لم أعتد أن أراه وحيداً. الجميع كان قريباً منه أو هو الذي كان يقرّب الجميع منه، بحركته الدائمة وابتسامته التي نادراً ما تغيب عن وجهه.
في الأمس، كانت آمنة بابتسامتها الجميلة وجملتها الشهيرة. كلّما كنت أزورها، كانت تقول: "بس شوفك كأنّو شفت جهاد". من جهته، كان علي يعيد جملتها الشهيرة تلك، مع قليل من الحلف. ثمّ يبدأ حديثاً طويلاً عن الأولاد والأحفاد، من خلال الصور على طاولة الطعام. هناك، تُعرَض الصور. وهي إمّا تتبدّل بين زيارة وأخرى، وإمّا تزداد عدداً. لكلّ واحدة من تلك الصور حكاية.
آمنة كانت بكلامها القليل نفسه، في فرحها وحزنها ووجعها. لم تكن تتفوّه بأسئلتها إلا عند توقّف علي عن الكلام أو دخوله إلى المطبخ لصنع "النسكافيه" الشهيرة مع الحليب. اعتدتُ شربها من يدَيه مذ دخلتُ بيتهما قبل خمسة وعشرين عاماً. وتسأل آمنة عن شؤوني اليومية وعملي وعن الأولاد، أو تصرّ عليّ للبقاء هناك حتى يحين موعد الغداء. تعود ابتسامتها، لمّا يعود علي ليستلم دفّة الكلام من جديد.
لبيتك يا آمنة مساحة شاسعة في ذاكرتي. منه انطلقتُ إلى التجنيد الإلزامي، وفيه اكتشفتُ عائلتي الثانية، واستقبلتُ وودّعتُ، وفرحتُ بولادة جاد وحزنتُ لغياب محمود. هناك، في بيتك لم أحسّ لحظة بغربة.
أمس، زرتُ علي يا آمنة. كان وحيداً ولم يتكلّم كعادته. كان مرتبكاً، مضطرباً، مهموماً. حاولتُ الهروب لكنّني لم أفلح. بقيتُ معه وقتاً أطول، أخبرني أنّ حالتك إلى تحسّن وأنّك سوف تعودين قريباً إلى بيتك. واستعاد جملتك الشهيرة، كأنّما أراد تكرارها من بعدك. كانت ابتسامته شاحبة من دون ملامح، وساعدته في تحضير "النسكافيه" مع الحليب. سمح لي بالتدخين داخل المنزل، وكرّر ما أخبره به الطبيب مرّات ومرّات، قبل أن يعود من جديد إلى طاولة الصور ويخبرني عن الأحفاد وكيف يكلّمونه من خلال الشاشة. كان يحبس دمعته بقوّته المعتادة. حينها قرّرتُ الرحيل ووعدته بزيارتكما قريباً. وعدته بالاتصال للاطمئنان عليك.
لم أتّصل يا آمنة. لكنّهم أخبروني أنّك عدتِ إلى قريتك، حيث ولدتِ. لم أتمكّن من الذهاب. ربّما هو الخوف. تحجّجتُ بأشياء كثيرة، بيني وبين نفسي، كي لا أكون في وداعك.
اقــرأ أيضاً
اليوم، لم أقرع الباب. كان مفتوحاً. كان الجميع هناك إلا أنت. وكان علي يكرّر كلامه. ترك دموعه تتحرّر من حبسها. اليوم، لأوّل مرّة، أشحت بنظري عن علي وعن الآخرين. تارة رحتُ أنظر إلى الأرض، وتارة أخرى رحتُ أراقب الجدران. منذ خمسة وعشرين عاماً، لم أنتبه في يوم إلى لوحات تظهر مناظر طبيعية معلّقة في غرفة الجلوس. أنا لم أعتد أن أجلس صامتاً بين جدران بيتك يا آمنة.
... ولم أعتد أن أراك وحيداً يا علي.
في الأمس، كانت آمنة بابتسامتها الجميلة وجملتها الشهيرة. كلّما كنت أزورها، كانت تقول: "بس شوفك كأنّو شفت جهاد". من جهته، كان علي يعيد جملتها الشهيرة تلك، مع قليل من الحلف. ثمّ يبدأ حديثاً طويلاً عن الأولاد والأحفاد، من خلال الصور على طاولة الطعام. هناك، تُعرَض الصور. وهي إمّا تتبدّل بين زيارة وأخرى، وإمّا تزداد عدداً. لكلّ واحدة من تلك الصور حكاية.
آمنة كانت بكلامها القليل نفسه، في فرحها وحزنها ووجعها. لم تكن تتفوّه بأسئلتها إلا عند توقّف علي عن الكلام أو دخوله إلى المطبخ لصنع "النسكافيه" الشهيرة مع الحليب. اعتدتُ شربها من يدَيه مذ دخلتُ بيتهما قبل خمسة وعشرين عاماً. وتسأل آمنة عن شؤوني اليومية وعملي وعن الأولاد، أو تصرّ عليّ للبقاء هناك حتى يحين موعد الغداء. تعود ابتسامتها، لمّا يعود علي ليستلم دفّة الكلام من جديد.
لبيتك يا آمنة مساحة شاسعة في ذاكرتي. منه انطلقتُ إلى التجنيد الإلزامي، وفيه اكتشفتُ عائلتي الثانية، واستقبلتُ وودّعتُ، وفرحتُ بولادة جاد وحزنتُ لغياب محمود. هناك، في بيتك لم أحسّ لحظة بغربة.
أمس، زرتُ علي يا آمنة. كان وحيداً ولم يتكلّم كعادته. كان مرتبكاً، مضطرباً، مهموماً. حاولتُ الهروب لكنّني لم أفلح. بقيتُ معه وقتاً أطول، أخبرني أنّ حالتك إلى تحسّن وأنّك سوف تعودين قريباً إلى بيتك. واستعاد جملتك الشهيرة، كأنّما أراد تكرارها من بعدك. كانت ابتسامته شاحبة من دون ملامح، وساعدته في تحضير "النسكافيه" مع الحليب. سمح لي بالتدخين داخل المنزل، وكرّر ما أخبره به الطبيب مرّات ومرّات، قبل أن يعود من جديد إلى طاولة الصور ويخبرني عن الأحفاد وكيف يكلّمونه من خلال الشاشة. كان يحبس دمعته بقوّته المعتادة. حينها قرّرتُ الرحيل ووعدته بزيارتكما قريباً. وعدته بالاتصال للاطمئنان عليك.
لم أتّصل يا آمنة. لكنّهم أخبروني أنّك عدتِ إلى قريتك، حيث ولدتِ. لم أتمكّن من الذهاب. ربّما هو الخوف. تحجّجتُ بأشياء كثيرة، بيني وبين نفسي، كي لا أكون في وداعك.
اليوم، لم أقرع الباب. كان مفتوحاً. كان الجميع هناك إلا أنت. وكان علي يكرّر كلامه. ترك دموعه تتحرّر من حبسها. اليوم، لأوّل مرّة، أشحت بنظري عن علي وعن الآخرين. تارة رحتُ أنظر إلى الأرض، وتارة أخرى رحتُ أراقب الجدران. منذ خمسة وعشرين عاماً، لم أنتبه في يوم إلى لوحات تظهر مناظر طبيعية معلّقة في غرفة الجلوس. أنا لم أعتد أن أجلس صامتاً بين جدران بيتك يا آمنة.
... ولم أعتد أن أراك وحيداً يا علي.