لمَ سميناها "النكبة"؟

18 مايو 2015
رنا بشارة
+ الخط -

تحضرني في الخامس عشر من أيار ملاحظات أساسية حول "النكبة" و"اللجوء" بوصفهما أبرز مصطلحين يؤكدان على أبشع احتلال في التاريخ الحديث، وإلى هزيمة تأسست حكومات وجيوش من أجل محوها، غير أن انهيار الدولة العربية، في الوعي وعلى أرض الواقع، يعيد التساؤلات عن مفهوم الأمة والجماعة، ومن دون إجابة عنها لا معنىً متحققاً للأرض، ولا دلالات متعينة لتحريرها!

لمَ أسميناها "النكبة"؟ سؤال يستوقفني مثل كثيرين، ويحيل إلى مفارقة أولى لدى الرجوع إلى كتب التراث، إذ اقتصر استخدام هذه المفردة على ذكْر خراب المدن الذي خلفّته الحروب الداخلية بين الأشقاء وأبناء العم على الخلافة، أو بسبب احتجاجات شعبية سرعان ما انقلبت إلى حروب أهلية، ومنها نكبة بغداد الأولى التي تشير إلى حرب الأخوين: الأمين والمأمون على إثر وفاة والدهما هارون الرشيد، وصولاً إلى نكبة بغداد الثالثة على إثر نشوب صراع بين العباسيين والبريديين.

رغم ضياع أغلب شعر النكبات لأسباب عديدة، وأبرزها على الإطلاق هو ضعفها الفني، وعدم تفوقها على الواقع في تصوير حجم الكارثة، إلاّ أن ميمية ابن الرومي الشهيرة في تصوير نكبة البصرة (277 هـ) ستبقى خالدة، ويقول فيها:

ذاد عن مقلتي لذيذ المنام        شغلها عنه بالدموع السجامِ
أي نوم من بعد ما حل بالبصـ     ـرة من تلكم الهنات العظامِ
لهف نفسي عليك يا فرضة البلد... إنِ لهفاً يبقى على الأعوام

تستدعي النكبة حنيناً إلى زمنٍ ماضٍ يرسمه المفجوعون فردوسهم المفقود، وبغيابه يسوّد الكون كلّه، وحتى لا نذهب بعيداً في إسقاط هذه الحالة على لحظتنا المعاصرة، فإنه يجدر الاكتفاء بمقولة ياقوت الحموي في معجم البلدان: "البصرة ومصر جناحا الأرض فإذا خربتا خربت الدنيا".

نكبات بغداد ودمشق وحمص ومكة والمدينة وغيرها هي وسم لمأساة أنتجتها صراعاتنا الأهلية، كما سجلتها المراجع التاريخية، بينما لم يتردد مؤرخ عن تسمية دخول التتار لعاصمة الخلافة عام 1258م بـ"السقوط" و"الغزو". فلماذا راق لنا إطلاق "نكبة" لوصف أبشع تطهير عرقي قامت به العصابات الصهيونية، وتشريد ثلثي أهل فلسطين، وممارسة إحلال ممنهج للإنسان والمجتمع ومنظومتهما الثقافية؟

ربما لم يعتقد أحدنا أن النكبة ستعني احتلال الأرض وتهجير أصحابها، ولست أدري لماذا أميل إلى هذا الاستنتاج، الذي تعززه المرويات الشعبية عن أناس مطرودين يرون أن عودتهم قريبة لن تطول شهراً أو شهرين! ولم نلتفت كذلك إلى أن الاحتلال لا يكون إلاّ لدولة مستقلة أو جزء منها، وأن دول الاستقلال العربية الناشئة، حينها، لم تُبن بعقد اجتماعي يوّحد أبناءها جميعهم، فانفرط اليوم عن فوضى واقتتال داخلي فيما لا تزال فلسطينهم محتلة!

ضاعت فلسطين في لحظة ملتبسة وقع العرب فيها تحت الاستعمار الأوروبي قبل تحررهم من الاحتلال العثماني، في وقت لم يكن الجدل حول تعريفهم لذاتهم ومصيرهم باعتبارهم أمة قد حسم بعد، مع تصاعد الأفكار والتيارات، حينئذ، واختلافها حول هويتهم على أسس قومية أو دينية، وعلى علاقتهم بالتراث والحداثة، ولما أخفقوا في الاختبار جاء استقلالهم منقوصاً.

هشاشة وطنية رسختها أنظمة حاكمة لم تغادر منطق القبيلة، رغم ادعائها الحرص على سمعتها لتندفع نحو المساومة عليها حين تُلمّ بها أول ضائفة تفضح إفلاسها التام، ثم تهاوت الدولة مع فرْض الخصخصة، وتتكشف فقط عن أجهزة أمنية متحالفة مع رجال الأعمال الجدد، لتكتمل فصول الخديعة في الانفجارات الاجتماعية الأخيرة، فشهدنا انهياراً كاملاً لأوطان واندلاع حروب “قبَلية” في أكثر من بلد عربي، في الوقت الذي تتجهز به البلدان الباقية للانخراط في حربٍ تتسع رغم تفاؤل كثيرين بتطويقها لأسباب ميتافيزيقية أو تتعلق بإرادات خارجية.

لم تقتطع فلسطين من أمة ناجزة؛ عملياً ونظرياً، وعليه لا غرابة أن تنهار الدولة القطرية العربية عن مشاريع خاسرة قبل أن نستعيد أراضينا المستلبة، كما أننا لن نستطيع تحرير فلسطين إذا لم نواجه امتحاننا الحقيقي بدل الهروب في مغاور التاريخ أو متاهات الغيب.  

هذه هي نكبتنا الحقيقية؛ سقوط الدولة التي قامت على رغباتٍ وخطاياٍ، وليس تاريخ 1948 إلاّ شاهداً عليها، وبذلك يغدو اللجوء الفلسطيني منذ 67 عاماً مدخل إجبارياً للجوء العقل إلى الشك والاحتماء بأسئلته الجارحة عن حقيقة قاسية وعارية في آن.

مئات آلاف الشهداء العرب على امتداد الجغرافيا الحائرة طوائفَ وعشائر، ومثلهم من الجرحى والمعاقين، وأضعافهم من اللاجئين داخل المكان وفي المنافي البعيدة، في السنوات الأخيرة، ولم نستطع الإجابة عن أسئلة: من نحن؟ وما هي أزمتنا؟ وماذا نريد؟

العجز عن التفكير بأصل مشكلتنا طوال العقود الماضية حوّلنا إلى مجرد ضحايا يسقطون في فخاخ الشعارات ردحاً من الزمن، لكنهم يضاعفون عجزهم حين ينقلبون على حالهم منقادين وراء آلامهم لا الأمل في التغيير، في إصرار على إبقاء نكبتهم مفتوحة ولجوئهم بلا عودة!


(كاتب أردني/ عمّان)

دلالات