لماذا يحب المصريون السينما الهندية؟

05 مايو 2017
(في سينما غالاكسي بالقاهرة، تصوير: خالد دسوقي)
+ الخط -



"كانت أمي تأخذنا إلى منزل جدتنا، نحتفل بأوّل أيام عيد الأضحى المبارك، بعد انتهاء الصلاة وطقوس الاحتفال بالشارع المجاور لمنزلنا، ننتقل إلى البيت الفسيح، حيث تلتقي الخالات والأخوال والبنات والأبناء، وعقب صواني الفتة واللحم الطازج، يبدأ الاحتفال، ينشغل الجميع فيما أعدوه للطقس الأسري، بينما كنت أبقى مشدوهاً أمام التلفاز في انتظار الفيلم الهندي"، هكذا يحكي الرجل الذي شارف على تمام الأربعين، لابنته الصغرى، وهما ينتظران أكياس الفيشار التي ستكفيهم لمواصلة ثلاث ساعات من مشاهدة الفيلم الهندي الجديد داخل قاعة السينما.

سُنّة احتفاليّة استنّها التلفزيون المصري، في عهد قطاعه الاقتصادي، بعرض فيلم هندي في فترة الظهيرة في أيّام "العيد الكبير"، لا أحد يعرف لماذا الأضحى تحديدًا خصّصوه للأفلام الهندية، ولماذا كانت مسرحيات "العيال كبرت" و"مدرسة المشاغبين" و"المتزوجون" من نصيب عيد الفطر، لكن منذ ذلك الوقت تحديدًا وفي منتصف الثمانينات عرف المصريون أن هناك سينما أخرى لا تنطق بالعربية، ولا تنتجها هوليوود، يُقتل أبطالها عشرات المرّات لكنهم لا يموتون، تصيبهم السهام فلا تزيدهم إلا قوة، وتخترق السيوف والرصاصات أجسادهم، فيردونها لصدور أعدائهم، تبدأ القصة بأم عمياء، أو أب سجين، وأطفال يشرّدهم الجوع والخطر والموت، وتنتهي بقصّة حب مستحيلة وبعد أن تذلل كافة الصعاب، تأتي الخاتمة باستحالة الزواج فالعروس شقيقة العريس التي اختفت منذ سنوات وعرفتها الأم بعد أن شاهدت شامتها أسفل ظهرها وهي ترتدي فستان الزفاف.

كان للفيلم الهندي موعدان مقدّسان، الأوّل تحسمه أهلة الأعياد، أما الثاني فحسمته القناة الخامسة المحليّة بالتلفزيون المصري، والتي كانت تبث برامجها لأهل الأسكندرية فقط، ثم كان من حسن الطالع لأهل القاهرة أن يمنحهم صفوت الشريف، وزير الإعلام حينها، فرصة المشاهدة المجانية للقنوات المحلية اعتبارًا من القناة الرابعة لأهالي القناة وحتى الثامنة لأهل أسوان، ولم تكن تلك الميزة متوفّرة سوى لسكان العاصمة، الذين ينعمون بالخدمات الحكومية والصحيّة والدراسية الأفضل وكذلك منحهم القدر فرصة متابعة "السوبر فايف" كل خميس.

خمس ساعات من المتعة مع أقوى البرامج العالمية، سيرك وموسيقى وأغانٍ وأفلام، في زمن خلا من الانترنت، ولم يعرف أبناؤه اليوتيوب، والفيسبوك، كانت الخمس ساعات من الثانية عشر مساءً وحتى الخامسة فجرًا، متنفسًا هائلًا لجيل كان ينتظر سماع صافرة نهاية الإرسال التلفزيوني في تمام الثانية عشر مساءً، حجز الفيلم الهندي موقعًا متميزًا في فقرة "السوبر فايف" الأسبوعية، وحجز معه أميتاب باتشان، النجم الهندي الأوّل في ذلك الزمان موقعه المتميّز في قلوب المصريين.

في ذلك الزمان، لم يكن للنجوم ذلك العدد الضخم من الفولورز على مواقع التواصل الاجتماعي، لم تكن صورهم متاحة على الأنستغرام، ولا فيديوهاتهم مذاعة عبر سناب شات، كانت أخبارهم أسبوعية عبر مجلّة الشباب أو الكواكب، وصفحات السينما العالمية في مجلة أخبار النجوم، أو في باب اليوم الثامن بمجلة روز اليوسف إبان عهد عادل حمودة، كان باتشان في مصر، نجمًا بلا نجومية، لا أفيشات، ولا حوارات، ولا صور، فقط فيلم تجود به الشاشة الفضية لمحبي السينما الهندية، "عمار..أكبر..أنتوني"، الفيلم الهندي الذي قام ببطولته أميتا باتشان في آواخر السبعينات، كان من أوائل بطولاته التي عرفها المصريون، امرأة فقيرة مريضة لزوج سجين، وثلاثة من الأبناء الصغار، دخل الأب السجن فداءً لرب عمله، على أن يتكفّل الأخير بأبنائه، خرج الأب من السجن، ليدخل في دوامة الانتقام، والأم المريضة يزيد عليها العمى، والأبناء الثلاثة يتفرق بهم الحال كل في دين، المسلم والهندوسي والمسيحي.

يعشق المصريون التفاصيل، ربّما لهذا السبب كان ولعهم بالأفلام الهندية، التي فتحت لهم بابًا جديدًا على عالم يشبههم، أبطاله ذوو شعر أسود، وبشرة قمحية، كان باتشان وقتها يشبه إلى حد كبير النجم المصري، محمود ياسين، نفس الطول، مع بشرة قريبة، وذات البنطلون الواسع والدلالية المذهبة التي تغطي شعر صدره المتفاخر به دوماً عبر قميصه الضيّق المفتوح، خلال سلسلة من الأفلام بدأت من فيلم دويدار عام 1975، نجح النجم الهندي أن يصنع أسطورة خاصة باسمه في عالم السينما، وخاصّة لدى المصريين، اللذين أحبوا البطل الخيِّر، المنتصر دومًا على الشر، المبادر إلى العفو عند المقدرة، المتسامح حتى مع أعدائه، ولهذا كانت صدمتهم كبرى حين تأكد لهم أن نجمهم المحبوب الذي يشاهدونه يصلي ويصوم ويذكر الله في الأفلام، عندما تغلق عليه الأبواب يصلي للآلهة الهندوسية ساراسوتى.

"لا توجد أي مؤسّسة في العالم، تستطيع أن توحّد الناس مثل السينما"، هكذا تحدّث باتشان، مع المذيعة المصرية، حين أتى لزيارة مصر منذ عامين، لم يزل باتشان يحتفظ بسحره القديم، ولم يزل قادرًا رغم الشعر الأبيض الذي غزا رأسه وأنار ذقنه أن يؤثر في قلوب المصريين، وأن يعيد إليهم ذكرياتهم القديمة، لكن دون رقص صاخب ولا معجزات سينمائية، ولا برق يخطف بصر أمه، ولا رعد يعيد إليه حبيبته من أيدي خاطفيها، فقط بابتسامة جاذبة، ولسان حكيم "أظن أن أشهر الممثلين في الهند الآن هم من المسلمين، ولا يحبهم الهنود فقط بل تأثيرهم فاق حدود الهند للعالم، يضحك الرجل الذي جاوز السبعين غامزًا للجمهور المحتفي به".

أظن فتيات مصر يعرفن جيدًا: شاروخان، سلمان خان، وعامر خان، النسخة الشبابية من السينما الهندية في العقدين الأوّل والثاني من الألفية الثالثة، السينما التي لا تعبر العالم فقط بل تعبر الأرواح، فيحل شاروخان محل باتشان القديم، يقدّم رقصاته المبهجة، مع الغناء المحبّب، يراقص بطلاته ويواعدهن بما يليق بشاب ألفيني، بلا برق ولا رعد، لا سيوف ولا رصاص، فقط شجار وصراخ ودموع، ويبقى المرض والموت هو اللاعب المستمر منذ بدأت السينما في الهند وحتى اليوم.

تخلّى اميتاب باتشان عن أدوار البطولة، لكنه فعل ما لم يستطع أن يفعله غيره من النجوم المصريين الذين فضّلوا الانسحاب حتى الموت، عبر أفلام خان وباجبان، وشاميتاب، استكمل البطل الهندي مسيرته الفنية، في سينما واقعية تخلت عن نزق الشباب، بينما لم تتخلّ السينما الهندية عن شبابها، فرقص شاروخان وغنّى عامر وعشق سلمان، لكنه عشق القرن الحادي والعشرين بلا معجزات.

المساهمون