لماذا يبكي أطفال غزة في "آرابس غوتّالنت"؟

03 مارس 2015

أحد أعضاء الفرقة الغزيّة المشاركة في برنامج المواهب(فيديو يوتيوب)

+ الخط -

تتملكني الحيرة، كلما طعنتني دموع أطفال غزة، على مسرح "آرابس غوتّالنت"، ويستحوذ علي سؤال عن السبب الذي يدفع طفلاً إلى البكاء، على الرغم من التصفيق المهول الذي يحظى به من جمهور المعجبين.

تساءلت كثيراً عن تفسير هذه الظاهرة، ولم أحر جواباً مقنعاً، فضلاً عن أنني لم أقبل بأن يُعزى السبب إلى ثنائية الفرح أو الحزن، لأن الدموع ليست وسيلة تعبير عن فرح طفولي، ولا هي أسلوب أطفال غزة في التعبير عن أحزانهم ومقاومتهم المحتل، هذا إذا افترضنا أنهم يحملون غضبهم معهم إلى المسرح، ذلك أننا رأيناهم على أرضهم يقاومون الموت بعيون جارحة، وإصرار غريب على التحدي.

إلى ماذا، إذن، يُعزى هذا السيل المنهمر من الدمع من عيون هؤلاء الأطفال الذين يحملون إبداعهم من خضم الحصار والدمار، لينثروه وروداً على مسرح "آرابس غوتّالنت"؟ أما كان حريّاً بهم، وهم يرون مبلغ الإعجاب الذي يحظون به، أن يرقصوا ويضحكوا، على غرار أطفال عرب آخرين نالوا مثل هذا الاستحسان، أو جزءاً منه، من الجمهور ولجنة التحكيم؟

بأي لغز يواجهنا هؤلاء الباكون على المسرح، وكأني بهم يرددون كلمات الأخطل الصغير:

يبكي ويضحك لا حزناً ولا فرحا/ كعاشق خط سطراً في الهوى ومحا

على الأرجح، أنهم جاؤوا إلى المسرح "عشاقاً" من طراز آخر، عشاقاً يكثفون حياتهم كلها بسطر واحد ثم لا يلبثون أن يمحوه ليتركونا، نتخبط بالحيرة، ونتساءل كيف يمكن لدمعة طفل أن تحفر فينا، ما لم تحفره القذيفة التي تنهال على براءتهم صباح مساء؟

كان أسطورة الكفاح الفيتنامي، هوشيه منه، يقول إن "المقاتل الجيد هو بالضرورة عاشق جيد"، لكنه لم يقل إن في وسع المقاتل الجيد أن يكون مبدعاً جيداً أيضا، كأطفال غزة على المسرح.

أراهن أن هؤلاء الأطفال ما بكوا إلا علينا نحن "المتفرجين" على مسرحهم الخاص، وكأنهم يرومون تخليصنا من هذه المقاعد التي ذابت عليها شحومنا، وكلما ازددنا تصفيقاً، تفاقمت دموعهم على عربٍ لم يتقنوا في حياتهم غير التصفيق.

لم يتجشموا عناء الوصول إلى "مسرحنا"، كي يقدموا لنا درساً في النضال والمقاومة، لأنهم يعرفون أن ذلك الدرس وصل إلينا على مسرح "الواقع" الذي كنا صفقنا له أيضاً، طوال الحربين الغزيتين، وعلى مدى الحصار المطبق الذي لا تنفذ منه، ولا حتى الدموع، بل جاءوا ليخترقوا حصارنا، نحن المختبئين في جحور العجز والذلة وخانات المراقبة عن بعد.

جاءوا ليحطموا "مسافات الأمان" التي استوطنت حياتنا الباهتة، فغدت غير قابلة للكسر أو التقصير، نلوذ بها بين الفعل وردة الفعل، ونمطّها عند الغضب، حيال أي حدث، ولو كان بحجم تمزيق أطفال غزة.

يبكي هؤلاء الأطفال على مسارحنا، لأنهم لا يجدون وقتا كافياً للبكاء علينا، بين القذيفة والقذيفة على أرضهم. أما على أرضنا المشرعة للوقت الذي يمضي بلا ساعات ودقائق ولا سنوات، فثمة متسع طويل للندب والنحيب ولطم الخدود وشق الجيوب، ولا شيء غير ذلك.

لو كنا نفهم لغة أطفال غزة، لأدركنا فحوى الرسالة التي حملتها دموعهم، لكننا استبدلنا الأدوار معهم على المسرح، ذلك أننا لن نتمكن من فك شيفرة دموعهم، من دون أن نتخلص من "مسافة الأمان" مع الدبابة والرصاصة والحياة المشرعة على الموت والإبداع في اللحظة ذاتها.

هما وجهان لطفل واحد، أحدهما يقاتل والآخر يبكي. لكن، على مسرحين مختلفين، غير أن الجمهور واحد؛ لأن الهدف النهائي لحصار العدو و"الصديق" هو قتل روح المقاومة الفلسطينية في غزة "أولاً"، وهذا ما لا ندركه، نحن المتفرجين أدناه.

في دموع أطفال غزة رسالة موجزة قوامها: "هي دمعتنا الأخيرة، نذرفها عليكم، فاتركوا مقاعد المتفرجين، وشاركونا البطولة".

EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.