اعتمدت مصر لسنوات طويلة يوم 30 يونيو/حزيران من كل عام موعداً لانتهاء السنة المالية، فتختم شركات القطاع العام والحكومة أعمالها في ذلك اليوم، وتنشر قوائمها المالية عنه.
وأرجع البعض اختيار ذلك التوقيت كنهاية للسنة المالية لتزامنه مع موسم محصول القطن، والذي كان عماد العديد من الصناعات المصرية ومصدرا هاما لإيرادات الدولة في مرحلة ما من تاريخ مصر. ورأى آخرون أن اختيار هذا التوقيت جاء بعد قيام ثورة يوليو/تموز 1952، ورغبةً من الضباط الأحرار وقتها في بدء حسابات جديدة للدولة (على نضافة) مع توليهم الحكم.
وبعد مرور عقود، ضرب نفس اليوم موعداً مع التاريخ، ليكون نقطة فاصلة في حياة الملايين من المصريين، وليصبح مرة أخرى موعداً لتقييم "الإنجازات" التي تمت في الأعوام التي تلت 2013.
توالت بعد ذلك الأحداث، حتى وصلنا إلى ما وصلنا إليه، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً.
وعلى الرغم من عدم جدوى الدخول في مناقشات بيزنطية حول تأثير ما حدث في 30 يونيو/حزيران، وما أعقبه من أحداث، على الوضع الاقتصادي تحديداً، بخلاف السياسي والاجتماعي، إلا أن أحد الأصدقاء نقل إلي ما يتردد حالياً حول المقارنات التي تعقد بين الوضع الاقتصادي الحالي وما كنا عليه قبل ذلك التاريخ.
قال لي صديقي "إنهم" يقولون في مصر إن الوضع الاقتصادي الحالي يعد أفضل كثيراً مما كان عليه قبل خمسة أعوام، وضرب لي ثلاثة أمثلة محددة، كانت بالترتيب:
1- ارتفاع احتياطي النقد الأجنبي من أقل من 15 مليار دولار في يونيو/حزيران 2013 الى أكثر من 44 مليار دولار الشهر الماضي.
2- ارتفاع معدل نمو الاقتصاد إلى 5.4%، بعد أن كان أقل من 2% قبل خمسة أعوام.
3- ثم أخيراً، موافقة صندوق النقد الدولي على صرف الدفعة الرابعة من القرض الذي وافق على منحه لمصر في عام 2016، حيث تعد موافقة الصندوق، بعد إجراء فريقه للمراجعة الأخيرة لبرنامج الإصلاح الاقتصادي في مصر، شهادة على نجاح البرنامج، ودليلا دامغا على أننا نسير في الاتجاه الصحيح!
وبعد أن سرد لي الصديق ما تلقفته آذانه من وسائل الإعلام المصرية، باغتني بالسؤال عن سبب تأخر الاستثمارات الأجنبية المباشرة في دخول السوق المصرية، على الرغم من البشارات التي زُفَّت إلينا في أعقاب المؤتمرات الاقتصادية التي تم عقدها في مصر خلال السنوات الأخيرة.
قلت لصديقي إن عزوف الكثير من المستثمرين عن دخول السوق المصرية، وقصرهم أغلب استثماراتهم ـ باستثناء السعودية والإمارات ـ على الاستثمار غير المباشر، من خلال الأسهم والسندات وأذون الخزانة، يعد أقوى دليل على تقييم العالم الخارجي السلبي للوضع الاقتصادي الحالي في مصر، فهؤلاء يقصرون استثماراتهم على ما يطلق عليه "الأموال الساخنة" Hot Money، والتي تسمح لهم بالخروج من السوق في أيام معدودة.
أما الاستثمار المباشر، وما يتطلبه من إنفاق استثماري ضخم، لا يؤتي أكله إلا بعد مرور فترات من الوقت، قد تصل إلى أعوام، فليس مما يحرص عليه المستثمر الأجنبي حالياً في الحالة المصرية، بسبب الغموض الذي يحيط بمستقبل هذا الاقتصاد، وبمدى استعداده أو قدرته على الوفاء بالالتزامات التي عليه في مواعيدها المحددة.
أوضحت لصديقي أن المستثمر الأجنبي "لا يشتري" الأرقام التي يُصدِّرُها له المسؤولون في مصر دون فحص وتنقيب فيما وراء تلك الأرقام. وعندما يسمع المستثمر أن احتياطي النقد الأجنبي زاد بحوالي 35 مليار دولار، لن يعترف بهذا الرقم كإنجاز قبل أن ينظر إلى الناحية الأخرى من المعادلة.
فالاحتياطي بالنسبة للدول يماثل عند الأفراد والشركات المدخرات الموضوعة في البنوك، ولا يمكن اعتبارها زادت إلا بالنظر في مديونية الفرد أو الشركة لمعرفة إذا كانت هناك زيادة في المديونية تماثل أو تفوق الزيادة في الرصيد في البنك أم لا.
وفي الحالة المصرية، لو نظر المستثمر الأجنبي إلى الدين الخارجي المصري، سيدرك على الفور أن الزيادة هناك تفوق الزيادة في الاحتياطي، حيث بلغت خلال السنوات الخمس الأخيرة أكثر من 45 مليار دولار، وفقاً لآخر رقم أعلنته الحكومة المصرية، بخلاف عشرة مليارات أخرى تم اقتراضها، ولم تتم إضافتها إلى رصيد الدين الخارجي.
اقــرأ أيضاً
أما عن معدل نمو الاقتصاد الذي يحتفل المسؤولون بارتفاعه، فمعظم التقارير المحايدة تتحدث عن كونه نتاج عمليات الإنشاء الضخمة التي تتم في عدة محاور، مثل العاصمة الإدارية الجديدة، والمدن الجديدة التي يتم إنشاؤها في العديد من المحافظات، بالإضافة إلى شبكة الطرق التي تم مدها في الفترة الأخيرة، وكلها مشروعات وإن كانت تمثل إضافة حقيقية للاقتصاد، إلا أنها ذات طبيعة خاصة، تجعل معدلات النمو المحققة غير قابلة للاستمرار على المدى الطويل، كما أن إضافاتها لفرص العمل المتاحة غير دائمة، حيث تغلب على أغلبها العمالة المؤقتة، بالإضافة إلى أنها لا تمس حاجات المواطن العادي العاجلة، في وقتٍ يتحمل فيه هذا المواطن الكثير من الأعباء.
قلت لصديقي إن معدلات النمو المرتفعة التي نشتاق إليها هي معدلات النمو الصناعي والزراعي، وربما الخدمي. فتلك القطاعات، عندما تنمو، تساعد على خلق فرص العمل الدائمة، ويساهم ما يتم إنتاجه فيها في تخفيض الأسعار، ويوجد فرصاً للتصدير، الذي يعد أفضل الطرق في الوقت الحالي للخروج من الأزمة الاقتصادية.
هذه القطاعات هي التي تجتذب المستثمر الحقيقي، لا المقاول أو سمسار الأراضي والعقارات الطامع في "سبوبة" سريعة، يعود بعدها إلى بلاده سالماً غانماً.
فلو نجحنا في تحقيق نمو حقيقي في تلك القطاعات، لن يتأخر المستثمر الأجنبي عنا، ولن يدخر جهداً للوصول إلينا، ولن تكون هناك حاجة وقتها لبعثات طرق أبواب، أو حملات ترويج للاستثمار في مصر، على غرار ما توجهنا به لعشاق كرة القدم الحاضرين في مونديال روسيا!
وأرجع البعض اختيار ذلك التوقيت كنهاية للسنة المالية لتزامنه مع موسم محصول القطن، والذي كان عماد العديد من الصناعات المصرية ومصدرا هاما لإيرادات الدولة في مرحلة ما من تاريخ مصر. ورأى آخرون أن اختيار هذا التوقيت جاء بعد قيام ثورة يوليو/تموز 1952، ورغبةً من الضباط الأحرار وقتها في بدء حسابات جديدة للدولة (على نضافة) مع توليهم الحكم.
وبعد مرور عقود، ضرب نفس اليوم موعداً مع التاريخ، ليكون نقطة فاصلة في حياة الملايين من المصريين، وليصبح مرة أخرى موعداً لتقييم "الإنجازات" التي تمت في الأعوام التي تلت 2013.
توالت بعد ذلك الأحداث، حتى وصلنا إلى ما وصلنا إليه، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً.
وعلى الرغم من عدم جدوى الدخول في مناقشات بيزنطية حول تأثير ما حدث في 30 يونيو/حزيران، وما أعقبه من أحداث، على الوضع الاقتصادي تحديداً، بخلاف السياسي والاجتماعي، إلا أن أحد الأصدقاء نقل إلي ما يتردد حالياً حول المقارنات التي تعقد بين الوضع الاقتصادي الحالي وما كنا عليه قبل ذلك التاريخ.
قال لي صديقي "إنهم" يقولون في مصر إن الوضع الاقتصادي الحالي يعد أفضل كثيراً مما كان عليه قبل خمسة أعوام، وضرب لي ثلاثة أمثلة محددة، كانت بالترتيب:
1- ارتفاع احتياطي النقد الأجنبي من أقل من 15 مليار دولار في يونيو/حزيران 2013 الى أكثر من 44 مليار دولار الشهر الماضي.
2- ارتفاع معدل نمو الاقتصاد إلى 5.4%، بعد أن كان أقل من 2% قبل خمسة أعوام.
3- ثم أخيراً، موافقة صندوق النقد الدولي على صرف الدفعة الرابعة من القرض الذي وافق على منحه لمصر في عام 2016، حيث تعد موافقة الصندوق، بعد إجراء فريقه للمراجعة الأخيرة لبرنامج الإصلاح الاقتصادي في مصر، شهادة على نجاح البرنامج، ودليلا دامغا على أننا نسير في الاتجاه الصحيح!
وبعد أن سرد لي الصديق ما تلقفته آذانه من وسائل الإعلام المصرية، باغتني بالسؤال عن سبب تأخر الاستثمارات الأجنبية المباشرة في دخول السوق المصرية، على الرغم من البشارات التي زُفَّت إلينا في أعقاب المؤتمرات الاقتصادية التي تم عقدها في مصر خلال السنوات الأخيرة.
قلت لصديقي إن عزوف الكثير من المستثمرين عن دخول السوق المصرية، وقصرهم أغلب استثماراتهم ـ باستثناء السعودية والإمارات ـ على الاستثمار غير المباشر، من خلال الأسهم والسندات وأذون الخزانة، يعد أقوى دليل على تقييم العالم الخارجي السلبي للوضع الاقتصادي الحالي في مصر، فهؤلاء يقصرون استثماراتهم على ما يطلق عليه "الأموال الساخنة" Hot Money، والتي تسمح لهم بالخروج من السوق في أيام معدودة.
أما الاستثمار المباشر، وما يتطلبه من إنفاق استثماري ضخم، لا يؤتي أكله إلا بعد مرور فترات من الوقت، قد تصل إلى أعوام، فليس مما يحرص عليه المستثمر الأجنبي حالياً في الحالة المصرية، بسبب الغموض الذي يحيط بمستقبل هذا الاقتصاد، وبمدى استعداده أو قدرته على الوفاء بالالتزامات التي عليه في مواعيدها المحددة.
أوضحت لصديقي أن المستثمر الأجنبي "لا يشتري" الأرقام التي يُصدِّرُها له المسؤولون في مصر دون فحص وتنقيب فيما وراء تلك الأرقام. وعندما يسمع المستثمر أن احتياطي النقد الأجنبي زاد بحوالي 35 مليار دولار، لن يعترف بهذا الرقم كإنجاز قبل أن ينظر إلى الناحية الأخرى من المعادلة.
فالاحتياطي بالنسبة للدول يماثل عند الأفراد والشركات المدخرات الموضوعة في البنوك، ولا يمكن اعتبارها زادت إلا بالنظر في مديونية الفرد أو الشركة لمعرفة إذا كانت هناك زيادة في المديونية تماثل أو تفوق الزيادة في الرصيد في البنك أم لا.
وفي الحالة المصرية، لو نظر المستثمر الأجنبي إلى الدين الخارجي المصري، سيدرك على الفور أن الزيادة هناك تفوق الزيادة في الاحتياطي، حيث بلغت خلال السنوات الخمس الأخيرة أكثر من 45 مليار دولار، وفقاً لآخر رقم أعلنته الحكومة المصرية، بخلاف عشرة مليارات أخرى تم اقتراضها، ولم تتم إضافتها إلى رصيد الدين الخارجي.
قلت لصديقي إن معدلات النمو المرتفعة التي نشتاق إليها هي معدلات النمو الصناعي والزراعي، وربما الخدمي. فتلك القطاعات، عندما تنمو، تساعد على خلق فرص العمل الدائمة، ويساهم ما يتم إنتاجه فيها في تخفيض الأسعار، ويوجد فرصاً للتصدير، الذي يعد أفضل الطرق في الوقت الحالي للخروج من الأزمة الاقتصادية.
هذه القطاعات هي التي تجتذب المستثمر الحقيقي، لا المقاول أو سمسار الأراضي والعقارات الطامع في "سبوبة" سريعة، يعود بعدها إلى بلاده سالماً غانماً.
فلو نجحنا في تحقيق نمو حقيقي في تلك القطاعات، لن يتأخر المستثمر الأجنبي عنا، ولن يدخر جهداً للوصول إلينا، ولن تكون هناك حاجة وقتها لبعثات طرق أبواب، أو حملات ترويج للاستثمار في مصر، على غرار ما توجهنا به لعشاق كرة القدم الحاضرين في مونديال روسيا!