تهدد تكنولوجيا الجيل الخامس البنى التحتيّة والظاهرة الثقافيّة والسياسيّة كما نعرفها، كونها تشكل واحدة من أشدّ تجليات الهوس بالسرعة والانتقال شبه الآني الذي عادة ما يكون من اختصاص أشكال السيادة المعاصرة، والتي تميل بدورها لاحتكار "الانتقال" وأساليبه. فالأسرع هو من يتحكم بطرق الانتقال المادية والسلكية واللاسلكيّة للوصول إلى لذة الانتقال اللحظيّ، الذي تسعى له السيادة في سبيل الهيمنة على موضوعاتها وعلى من يستفيدون من تكنولوجياتها، هي تشق الطرقات وتوسّع المدى اللاسلكي لضمان انتقال المعلومات وتشفيرها والتحكم بازدحامها وتصنيفها وإلى من ستصل نهاية. هنا تأتي خطورة الـ5G ومن يمتلك بناها التحتيّة. فزمن التأخير عبرها شبه متلاشٍ، إذ يمكن أن تتحرك السيارات لوحدها أو عن بعد، ويمكن أن تشغّل المصانع من أي مكان في العالم... هذا "الجيل" اختزل المكان حتى تلاشيه، تاركاً الزمان مهيمناً في كل لحظة.
هذا التهديد يتمثل حسب الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا بـ"هواوي" الصينيّة، شركة الهواتف والاتصالات التي تواجه حرباً قانونيّة مع حكومات الدول تلك، إذ اعتقلت مينغ ويزنهو المديرة الماليّة للشركة في المطار في كندا، وتواجه تهماً هناك كي يتم ترحيلها إلى أميركا. كما رفعت الشركة دعوى قضائيّة على الولايات المتحدة التي منعت مُنتجاتها، إذ وقّع دونالد ترامب على قرار يمنع استخدام تكنولوجيا هواوي في القطاعات العسكرية والأمنية.
ما يبدو حرباً اقتصاديّة، هو أيضاً حربٌ أمنيّة، خوف من أن تتحول غواية السرعة إلى وسيلة للتجسس والهيمنة على المستخدمين كما ترى الولايات المتحدة التي اتهمت "هواوي" بسرقة تكنولوجيّة وقاضتها إثر ذلك، إلى جانب اتهامها بأنها ستسرب ما يمر في قنوات الاتصال الخاصة بها إلى المخابرات الصينيّة. فالقوانين في الصين تبيح للدولة أن تطلب من شركاتها الاطلاع على الأنشطة التي تقوم بها ومضمون الخدمات التي توفرها، والأهم، هو الخوف من مؤسس الشركة نفسه رين زينغفي، ذي الخلفية العسكريّة والعضو السابق في جيش تحرير الشعب في الصين، والذي صرح أنه لن ينصاع للاستخبارات الصينيّة في حال طلبت منه أي مساعدة.
التساؤلات التي نطرحها عن هذه التكنولوجيا والهيمنة الصينيّة مرتبطة بطبيعة العصر، والمراقبة الرأسمالية التي نخضع لها، والتي توظف سرعة الانتقال والتحكم عن بعد لإعادة تكوين حياتنا. إذ يمثل الجيل الخامس نقطة انقلاب، لا فقط كونه يشكل تهديداً جديداً لصحتنا الجسديّة بسبب الأمواج المايكرويّة الجديدة التي سنتعرض لها إن انتشرت بناه التحتيّة في كلّ مكان، بل كونه يتيح أيضاً إعادة النظر بنظام التحكم بالحركة. فالسيارات ستقود نفسها وتوجهها إشارات مرور مبرمجة مسبقاً، وتخاطب السيارة التي تنقلنا وتحركنا من دون أن تمسها الأيدي. كل أشكال التنقل ستكون مدروسة ومحسوبة كلعبة، نشاهد فيها المهام التي نريدها تتحقق بصورة آليّة، دون تدخل منا، زمن سوء التقدير البشريّ أو حسن التقدير يتلاشى على حساب دقة الآلة وحساباتها المسبقة شديدة الآنيّة، فالانتقال لم يعد محكوماً بالاندفاعات الشخصيّة، بل بكفاءة حسابات الآلة وتوقعاتها المنطقيّة.
اتُهمت "هواوي" أيضاً بتجاوز العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة على إيران وكوريا الشماليّة، وتوفير التكنولوجيا اللازمة للتجسس على المواطنين ومعلوماتهم الشخصيّة. لكن هذه المعلومات ليست بالجديدة، أي أن الصين ليست المتهمة الوحيدة بتوفير تكنولوجيا تجسس لدول قمعيّة، فذات التهمة تنطبق على ألمانيا و فرنسا. أما التجسس على المواطنين فأيضاً الولايات المتحدة مدانة به بعد أن خرج المتعاقد السابق مع وكالة الاستخبارات الأميركية إدوارد سنودن للعلن.
نحن أمام حرب على المعرفة وسرعتها لسنا نحن ضحاياها فقط، بل نحن سلعتها التي يتم الاقتتال عليها، والصراع أساسه سرعة الحصول على المعلومات وكيفية توزيعها والتلاعب بها. هذه السرعة تحوّلنا إلى شخصيات في لعبة فيديو، تتصارع شركتان على حقوق تشغيلها. كما تهدد القواعد الجديدة الاحتكار التقليديّ وتخلق لاعبين جددا يمتلكون القدرة على ضخ "المعرفة" بأنواعها بصورة آنية واستخراجها من أجل تشكيل وعينا بالعالم. فالتهديد الأمني لا يرتبط بالعمليات الإرهابيّة والعسكريّة بصورة مباشرة بل بالسوق والمستهلكين، نحن الذين فعلاً تسهل حياتنا سيارة تمشي لوحدها، أو أن يقوم البراد بالتسوق وحده. وإذا كان اختصار الزمن والمسافة مريحا على المدى القصير، فماذا عن كم الإعلانات والمعلومات التي يمكن أن تتدفق بصورة آنيّة، تحديداً تلك المرتبطة بالقرار السياسي وصورة الآخر؟ إنّ هذه التكنولوجيا قادرة على اختزال المكان في نظارة ثلاثية الأبعاد بحيث يأتي العالم إلينا عبرها بصورة "ناصعة" من دون تأخر زمنيّ، مبنيّة بإحكام بالطريقة التي تريدها "الشركة". يكفي فقط أن نشاهد ونمارس حقوقنا السياسيّة بـ"أسهل" شكل ممكن، من دون اختبار العالم وامتداده، بل عبر تلقي صورته آنياً.