"إنّ التحرك العسكري على الأرض وانعدام الإجماع في مجلس الأمن الدولي أثرا بشكل جذري على فاعلية المهمة التي أخذتها على عاتقي"، هكذا أنهى المبعوث الأممي والعربي للأزمة السورية حينها، كوفي عنان، المؤتمر الصحافي الذي عقده، في أغسطس/آب 2012 للإعلان عن استقالته. لكن يبدو أن الظروف الدولية تغيرت، وباتت القوى الإقليمية والدولية أقرب إلى التوافق للوصول إلى حل، سواء تلك الداعمة للمعارضة أو للنظام.
وخلصت جميع القوى إلى أنه لاحلّ عسكريا ممكن في سورية ينهي الأزمة لصالح أي من الأطراف، الأمر الذي أكده وزير الخارجية الأميركي جون كيري، خلال زيارته منذ أيام إلى مدريد، قائلاً إن "الجميع، بمن في ذلك روسيا وإيران، متفقان على أن الحل العسكري غير ممكن في سورية". كما أكّده الرئيس الروسي فلاديمير بوتين خلال لقائه برئيس النظام السوري بشار الأسد في موسكو، قبل يومين، قائلاً إنه "في نهاية المطاف، فإنّ الحل البعيد للأزمة سيكون على أساس التسوية السياسية بمشاركة جميع القوى ومختلف الأطياف العرقية والدينية".
اقرأ أيضاً: الأسد في موسكو قبل فيينا السوري: الخروج الأول
جاء ذلك بموازاة عودة الحديث عن الحل السياسي، إذ سرّب عدد من المسؤولين في الخارجية التركية مسودة خطة للحل، تم تقديمها لموسكو، كما تمت مناقشتها بين مختلف الدول ذات الشأن في اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، في سبتمبر/أيلول الماضي، ووافقت عليها تسع من دول التحالف الدولي ضدّ تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش)، بما فيها أنقرة وواشنطن.
وتتضمن الخطة المحافظة على ما تبقى من مؤسسات الدولة، وتهدف إلى الدخول في عملية سياسية انتقالية، لمدة ستة أشهر، تحافظ سورية بموجبها على وحدتها كدولة علمانية تعددية، ويبقى بشار الأسد في منصبه بعد أن يصبح المنصب رمزياً دون صلاحيات، بينما يدير البلاد هيئة حكم انتقالية مكونة من المعارضة والنظام، تنتهي بخروج الأسد من البلاد والقضاء على (داعش) وإقامة انتخابات.
وأكثر من ذلك، لا تبدو جميع التحركات العسكرية التي تشهدها سورية، سواء لجهة الحملة الواسعة التي يشنّها النظام على المعارضة، أو إعادة الهيكلة في قواته، أو المحاولات القطرية الأخيرة لإعادة ترتيب البيت الداخلي للمعارضة السورية بإنشاء هيئة عسكرية سياسية تقصي "جبهة النصرة"، تحت اسم هيئة التحرير الوطني، سوى تحضيرات لخوض مرحلة المفاوضات.
ورغم أن طهران قدمت كل طاقاتها العسكرية والمالية والسياسية للحفاظ على النظام السوري، سواء على مستوى التدريب أو التسليح أو التمويل وحتى إرسال مليشيات أفغانية ولبنانية وعراقية، فإن كل ذلك بدا دون جدوى، واستمر نظام الأسد بالتراجع على جميع الجبهات، مما اضطره إلى طلب المساعدة الروسية.
هنا، تبدو روسيا أيضاً، جاهزة للخوض في حلّ سياسي الآن، مدعومة بتأييد كل من مصر والإمارات والأردن؛ فمن جهة، موسكو مقتنعة بأنّه لا حل عسكريا ينهي الصراع، خصوصاً أن شبح أفعانستان لايزال ماثلاً في الذاكرة الروسية، في ظل الفشل الواضح للحملة التي يقودها النظام بتغطية من الطيران الروسي في تحقيق تقدم واضح يحسن من ظروف التفاوض، إذ عاد المتحدث باسم الكرملين دميتري بيسكوف، الأربعاء، إلى نفي أي نية لروسيا لخوض عملية عسكرية برية في سورية، مضيفاً أنّ "الرئيس الروسي نفى مراراً عزم موسكو على خوض عملية برية في سورية"، مشيراً إلى أن زيارة "الأسد لموسكو لم تغير الموقف الروسي في هذا الشأن".
ومن جهة ثانية، يبدو أن الإدارة الروسية حصلت على ما تريده تماماً بعد تدخلها الجوّي لصالح الأسد بالتنسيق مع إيران بحجة قتال "داعش"، فلم تعد يقتصر تواجدها في البلاد على القاعدة البحرية في ميناء طرطوس، بل بات لها قاعدة جوية كبيرة ومجهزة بشكل كامل في مطار حميميم في اللاذقية، تكاد تكون الوحيدة خارج دول الاتحاد السوفييتي السابق، لتتجاوز بذلك "متلازمة ليبيا" التي أصيبت بها بعدما تم خداعها من قبل الغرب، عندما خسرت أحد أهم حلفائها نظام معمر القذافي.
ومن الناحية الاستراتيجية، حققت موسكو ما كانت تريده من تدخلها، بتقديم نفسها كقوى عالمية في عالم متعدد الأقطاب، الأمر الذي كان الكاتب والمفكر الروسي ألكسندر دوغين، والذي يلقب بـ"دماغ بوتين"، قد أشار إليه عند دعوته إلى ضرورة مساندة النظام السوري منذ بداية الثورة السورية، معتبراً بأن المعركة في سورية هي معركة المستقبل بين قوى تساند عالما متعدد الأقطاب ممثلة بالصين وروسيا وإيران، وأخرى تريده بقطب واحد تتمثل في الدول العربية والغربية الداعمة للمعارضة السورية.
اقرأ أيضاً: ألكسندر دوغين: من الفكر إلى "دماغ بوتين"
أما على الجانب الآخر، أي الدول الداعمة للمعارضة السورية، فتبدو بدورها، منهمكة بالبحث عن حلّ، إذ يمكن اعتبار الحرب السورية وتشعباتها إحدى أهم العوائق في وجه تحقيق الإدارة الأميركية تقدّماً واضحاً في الحرب على "داعش"، الأمر الذي زاد الضغوط بشكل كبير على إدارة باراك أوباما أخيراً بعد إعلان فشل برنامج تدريب وتسليح المعارضة السورية، التي رفضت أن تقتصر حربها على "داعش" دون النظام.
كما يضع التدخل الروسي وفقدان الحل في سورية، واشنطن أمام خيار وحيد وصعب للغاية، وهو تقديم دعم لقوات المعارضة السورية لمواجهة النظام، الأمر الذي حصل مع وصول كميات محدودة من صواريخ (تاو) الأميركية المضادة للدروع، وإن كانت هذه الصواريخ قد ذهبت للفصائل المعتدلة المحسوبة على الجيش السوري الحر، إلا أنّها في نهاية المطاف لا تمنع تقدّم النظام فحسب، بل تحافظ أيضاً على الأراضي التي يسيطر على جزء كبير منها جناح "القاعدة" السوري أي "جبهة النصرة"، وأيضاً حركة "أحرار الشام"، التي لا يمكن اعتبارها ضمن الفصائل المرضي عنها أميركياً رغم التحولات الكبيرة التي شهدتها الحركة أخيراً.
في غضون ذلك، لم تعد الحرب السورية تقتصر بالنسبة لأنقرة على الضغط الكبير الذي شكّله تدفق أكثر من مليوني لاجئ إلى الأراضي التركية، أو الخطر الاستراتيجي الذي يشكله وجود (داعش) على الطرف الآخر من الحدود، بل بات الخطر في قلب الأراضي التركية، بعد العمليتين اللتين نفذهما التنظيم في كل من مدينة سوروج والعاصمة أنقرة؛ وهما العمليتان اللتان شكلتا ضربة كبيرة للحكومة التركية في وقت حرج على أبواب انتخابات برلمانية تعتبر الأهم لحزب "العدالة والتنمية" الحاكم خلال 13 عاماً من تفرّده في الحكم.
وأكثر من ذلك، بعد عودة الاشتباكات بين أنقرة وعدوها التاريخي حزب "العمال الكردستاني"، أصبح حزب الاتحاد الديمقراطي ( الجناح السوري لحزب "العمال الكردستاني") هاجساً يحرّك الدبلوماسية التركية في مختلف الاتجاهات. ووصل الأمر بوزير الخارجية التركية فريدون سينير أوغلو، إلى توجيه تهديد مباشر لصالح مسلم زعيم "الاتحاد الديمقراطي"، خلال زيارة وزير الخارجية السعودي عادل الجبير إلى أنقرة، الأسبوع الماضي، وتلاها التهديد المباشر من قبل رئيس الوزراء التركي أحمد داود أوغلو لحزب "الاتحاد الديمقراطي" بتوجيه ضربات مباشرة له في حال قام "العمال الكردستاني" باستخدام الأسلحة الممنوحة للاتحاد الديمقراطي أو استخدم الأراضي التي يسيطر عليها الأخير في حربه ضدّ أنقرة.
يأتي هذا بينما تبدو السعودية والتحالف العربي، منهمكين في اليمن، بعد التباطؤ الملحوظ في تقدم قوى الشرعية التي يدعمها التحالف في الحرب ضدّ الحوثيين وقوى الرئيس المخلوع علي عبد الله صالح المدعومة إيرانياً، خصوصاً أنّ أموالا طائلة ستكون في انتظار إيران، إذا تم تنفيذ الاتفاق النووي ورُفعت العقوبات عنها، لذلك يبدو كافياً بالنسبة للخليجيين الوصول إلى صياغة تجعل لهم دورا في سورية، وتخرجها من السيطرة الإيرانية الكاملة.
وبالنسبة لأوروبا، فإن الدبلوماسية الألمانية، وتحت ضغط أزمة اللاجئين، تسعى بشكل محموم لإيجاد حل عاجل ينهي الحرب السورية التي باتت تشكل خطراً على أمن دول الاتحاد، في ظل الأعداد الكبيرة من المقاتلين الأوروبيين الذين التحقوا بالتنظيم، في مقابل الأعداد غير المسبوقة من اللاجئين الذين توجهوا لأوروبا، مشعلة أزمة داخل الاتحاد.
وفيما يتعلق بدولة الاحتلال، فإن الحرب السورية لم تشكل أي خطر على إسرائيل، من وجهة نظر الحكومة الإسرائيلية، طالما المُستنزَف من الحرب هم السوريون وحزب الله اللبناني، وما دامت الأسلحة النوعية لا تجد طريقها إلى الأخير. ولكن مع مرور الوقت، انخفض دور القوى المعتدلة لصالح تلك الراديكالية الإسلامية سواء "النصرة" أو "داعش"، التي باتت قرب الحدود مع الجولان، الأمر الذي بات يضع الأخيرة أمام مخاوف مواجهة "شيطان لا تعرفه"، لتعود إسرائيل إلى استراتيجيتها الأخيرة وتنسق مع روسيا التي تدعم "حامي حدود الجولان" التاريخي مرة أخرى، بعد التطمينات التي تلقتها من موسكو فيما يخص أمنها القومي.
وأخيراً، وإن كانت الظروف تبدو سانحة تماماً للوصول إلى حل ينهي الحرب السورية، يبقى "الشيطان" في تفاصيل الاتفاق على المرحلة الانتقالية، بما في ذلك مصير الأسد والتحديات بدءاً من التوافق على إدارة البلاد ودور الدول الراعية، وإعادة تشكيل الجيش السوري، إلى قتال الجماعات المتطرفة في سورية.