لغة عابري الحدود

10 مارس 2017
سامية حلبي/ فلسطين
+ الخط -

يفتح حقيبته، يُخرج منشفةً نظيفةً وفرشاة أسنان جديدة، يقف أمام المرآة يلمس زجاج صورته ويقول في نفسه: ما زال زغب لحيتي يافعاً فلا داعي للحلاقة هذا الصباح فقد أتأخر عن الحافلة. يرمي كل تلك الأشياء في سلة المهملات.

فالمسافر لا يستعمل الأشياء مرّتين، يملأ سنام حقيبة الظهر بطعام خفيف وعبوة ماء صغيرة.

يعود إلى المرآة، يختار ابتسامة بعد أن يجرّب أكثر من واحدة.

يقشّر وجهاً نظيفا تركه قبل قليل خلفه.

يخرج، يُلقي التحية على رجل استيقظ متأخراً ﻷنه لم يجد كرسياً كيّ ينام، فاستند على كتف حقيبته وغفا.

في الطابور أمام الحمام، يُلقي الغرباء دعابات تحمل معنيين؛ كأن يقول أحدهم للآخر لا تنظر إلى إصبعك فتحنّ للكتابة، حبر قلمك من الماء ولا دفاتر في الطريق.

يضحكون على نكات بذيئة حتى إن لم يفهموا لغات بعضهم، يضحكون معاً كأن النكات البذيئة لغة مشتركة بين الغرباء. ويسخرون من حرّاس ظلّهم حين يفتشون مناطقهم الحساسة فيقول آخر هذا سلاحي صادره فأنا لا أستعمله.

يستغرب الحارس ضحكاتهم فهو لا يعرف لغة عابري الحدود. يقول آخر لو أن فتاة تفتشني لبكيت. ويُخرجون حقائب متشابهة، كل أشيائهم متشابهة، فأكياس المؤونة التي يوزّعونها في الطريق متشابهة، وكل ما فيها استعمال لمرة واحدة. كم يشتهي الغريب أن تكون له فرشاة أسنان دائمة أو مرآة خاصة، فعلى ذمّة غريب أنه دخل حماماً جماعياً ووجد وجهاً في المرآة نسيه صاحبه حين سمع صوت القطار وخرج مسرعاً لهذا يعتقد الحرّاس أنّ الغرباء دون ملامح، فتراهم يدقّقون في جوازات السفر عن علامة مميزة كفرح.

والغريب لا يعطي اسمه الحقيقي إلا للحرّاس فهم لا يعرفون الحرب. ويكنّي نفسه باسم جديد ويبالغ في حرصه فيغيّر روايته أمام غريب مثله كأنه ربّى الخوف كابنه.

علّ هذا الغريب مخبر للحرب، وقد يبالغ غريب آخر فيروي بطولاته، ويتهكّم غريب على روايته فيتشاجران ويتّهمان بعضهما بالجبن.

يحمل غريب آخر حقيبته ويقول: لو أنكم شجعان لبقيتم هناك ويبتعد عنهم.

على مفترق الالتفاتة يختار الغريب وجهته بين غربتين؛ واحدة صوب الخيبة وواحدة صوب السُدى. يختار وجهتة غيمة لها شكل سهم، فكل سماء في الطريق لونها رمادي، وكل بلل لونه كيس مطر يرتديه الغريب عند أول دمعة حين يخزه ملح الحنين، يخرج صور أطفاله وزوجته من مكان سرّي خبأ فيه رواية خيباته، وحين يرفع رأسه إلى السماء ويتبع سهم الغيمة يعود إلى مفترق الالتفاتة مرة أخرى.

غيّرت الريح وجهتها على حين غرّة ولم ينتبه؛ فبوصلة الغريب شمالها ضياع وجنوبها ضياع أكبر.

وكلّما فرد الغريب ذكرياته غيّرت الريح وجهتها وعاد إلى مفترق الالتفاتة اللولبي.. مسكين رجل غريب سهم دلالته غيمة.


* شاعر فلسطيني سوري

المساهمون