يخضع العالم لجنونٍ كاسحٍ. تحاول السينما أن تلحق بالجنون هذا، فلا تلتقطه، لشدّة تفلّته من كلّ قيد. جنون يختلط بفساد وجريمة، وبهوسٍ فظيعٍ بالدمار.
في تاريخها، تسبق السينما الحياة والعالم. تقول ما يحدث لاحقاً. لكنها اليوم مُتعبةٌ، ومُثقلةٌ بألف همّ وانهيار وقلق وارتباك وخوف. العالم أقوى منها. يُصبح عصيّاً عليها، بعد سنين من إمساكها به في صُوَرٍ، تأتي إلى الشاشات الكبيرة من أعماقه، فتُخبر عن الفعل قبل أن يقع، أو عن الحالة قبل أن تظهر.
تبدّل المشهد. السينما، اليوم، مُتعبةٌ ومُثقلةٌ بألف همّ وانهيار. تبتعد عن العالم، لانغماسه الوحشيّ بعنفٍ لا مثيل له. تُساق تُهم للسينما بالترويج للعنف، وبتسهيل أفعاله، وبتحريض أفرادٍ على ممارسته.
يرفض الأميركي أوليفر ستون هذا الاتهام. يقول إن ما تبثّه المحطات التلفزيونية أكثر بكثير، وأعنف بكثير، مما تُقدّمه السينما، لأنها تأتي به من الواقع. الراهن يؤكّد صحّة قوله: عنف الواقع لا يُحتمل، وجنون العالم منبثقٌ منه. عنفٌ متفشٍّ في الاجتماع الدولي بكامله، وجنون يُطيح بكل شيء.
أسباب العنف عديدة. التوقّف عندها غير مفيد. المأزق، أن السينما مذهولةٌ أمام هول الجريمة المتكرّرة، هنا وهناك وهنالك، وذهولها يعني قرفاً، أو خوفاً من مجهولٍ، لا تتمكّن من كشفه مسبقاً. أو ربما تيأس من تكرار كشفه مسبقاً، لشدّة بهتانه. ليس القتل فعلاً جرمياً وحيداً. النار مشتعلة في مدن وفضاءات وأرواح. الفساد لا يُحتمل. التمزّقات حاصلة. الانشقاقات أيضاً.
قيمٌ جميلة يفقدها كثيرون، فإذْ بفقدانها يُزيد من انهيار العالم، ويرفع حدّة جنونه، وحدّة الجنون المعتمل فيه. السينما مذهولةٌ. تعيد نفسها باستعادات أو تتمات أو إنتاجات ضخمة. لن أقول إن السينما برمّتها عاجزةٌ عن اللحاق بما يجري. لكنها، برمّتها، مُصابةٌ بخيبات وانكسارات. مُصابةٌ بألمٍ لن يُشفى، لشدّة خرابٍ يعتمل في العالم، ولشدّة بؤسٍ يفتك بالحياة.
اللغة العربية تبدو، هي أيضاً، عاجزةً عن ابتكار مفردات تتلاءم وراهنٍ كهذا. أي وحشٍ متفلّت من كهفه، يجوب العالم زارعاً خراباً، لن تستطيع السينما تصويره؟ السينما تحتاج إلى معجزة، كي تغلب العالم وجنونه، والحياة وبؤسها. اللغة العربية تريد منفذاً إلى جديد، يقول شيئاً يسيراً من عجز السينما، وشقاء العيش، وموت الحياة.
أما الكتابة عن هذا كلّه، فمأزقها واضحٌ: البحث عن تعابير تصلح، إنْ يتمّ تركيبها وفقاً لقواعد معروفة، لتكون مرآة، ولو مكسورة، لجنون العالم، وبؤس الحياة، وشقاء العيش.
لن أسأل: من يُطلق الوحش، ومن يُغذّي الوحش، ومن يحمي الوحش، ومن يُحرِّض الوحش؟ لكنّي أنتظر قيامة السينما من عجزها وارتكابها، وهي ستفعل هذا طبعاً، كي تُعيد للعالم بعض توازن، وكي تمنح الحياة بعض حراكٍ أجمل، وكي تقول للعيش إن قدره نبضٌ بديعٌ، أحياناً.