لحظة لبنان المفصلية
لم يعد ممكناً الحديث عن إمكانية الوقوف في وجه ما يُمكن اعتبارها "لحظة مفصلية" في لبنان، تحديداً لناحية فقدان جميع من يُمكن تصنيفهم أصحاب القرار اللبناني القدرة على فعل أي شيء تقريباً. الجميع يخضع لرغبات دولية متسارعة، سواء لناحية القبول بحكومة جديدة، أو الموافقة على الإصلاحات المطلوبة لتسهيل تلقي الدعم المالي، أو العجز في الوقوف أمام الزحف الأوروبي، العسكري تحديداً، إلى لبنان. عادةً، كان الخارج يسمح بهامش حركة للأطراف السياسية اللبنانية، تعمل من خلاله فترة، قبل أن يعود هذا الخارج ويفرض قواعد اشتباك جديدة. حصل هذا مراراً في السابق، وآخرها في عام 2005، بعد اغتيال رئيس الوزراء الأسبق (النائب في حينه) رفيق الحريري. ودائماً ما يحصل أن كل "لحظة مفصلية" في لبنان تكون في سياقات إقليمية كبيرة. وفي الإطار الحالي، تصبّ الزيارات المتتالية لمسؤولين عرب وغربيين إلى بيروت في خانة التوتر المتصاعد في شرق المتوسط.
ومن الطبيعي أن تلك اللحظة تؤكّد مجدداً أن لا سيادة فعلية في لبنان، وأن الخطابات الأزلية عن استقلالية القرار اللبناني، ليس سوى للاستهلاك المحلي وجذب أنصار فقط. يكفي مراقبة كيفية جلوس قادة الأحزاب اللبنانية وممثليهم، على طاولة واحدة مع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، وكأنهم يتلقون مقرّرات المرحلة المقبلة. هؤلاء أنفسهم من اتهموا اللبنانيين الذين انتفضوا عليهم، بدءاً من 17 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، بأنهم "عملاء سفارات"، أثبتوا أنهم خير منفّذين لأوامرها. هذه الأحزاب اللبنانية تدرك أنها لن تستطيع فعل شيء في بيروت، طالما أن معارك ترسيم الحدود البحرية بين تركيا واليونان ومصر وليبيا تقدّمت على ما عداها، وتعلم هذه الأحزاب أيضاً أن أي حراك سياسي مفاجئ غير متفق عليه مع الخارج ليس مسموحاً به، في ظلّ الصدام السياسي التركي ـ الأوروبي.
ماذا يعني هذا؟ يعني أن الوقائع ستُفرض على السلطة اللبنانية فرضاً، من حلول واتفاقات وغيرها. لا أحد يمكنه الادّعاء بأنه قادر على تغيير دفّة القرار. ولا أحد قادر على إعادة إنتاج السلطة سوى بقرار خارجي. طبعاً ماذا ستفعل السلطة؟ ستقبل بأي شيء وبكل شيء. ستقبل بالحلول الغربية وستقبل بالشروط السياسية المُصاحبة للمساعدات المالية. ستقبل بالجيوش الغربية التي تهدف إلى التمركز في قبرص ولبنان ترسيخاً لمبدأ "القوة في إظهار القوة" بمواجهة تركيا. ستقبل السلطة، بمواليها ومعارضيها ومستقليها، بأي شيء، لتبقى في مواقعها في مواجهة اللبنانيين.
يعني هذا كله أن قمع الانتفاضة اللبنانية جاء بهدف تكريس تبعية السلطة للخارج، ورفضها تحرير القرار السيادي اللبناني أولاً، وتغيير النظام إلى مدني ثانياً. وتؤكّد مجريات مرحلة ما بعد تفجير مرفأ بيروت أن الهدف الأساسي للمنظومة الحاكمة يكمن في مزيد من القمع، سواء عبر إعلان حال الطوارئ في بيروت، أو في التفكير بتعميم هذا المنطق على كل لبنان. وسها عن بال هذه المنظومة أن التشدّد يسبق انهياراً ما، وأن ما يحصل سيُمهّد لحالة جديدة من الرفض للمنظومة الحاكمة وأحزابها. وهو ما يدفعها، عبر مناصريها في الوسائل الإعلامية، إلى ضخّ الأنباء الطائفية، من أجل تكريس هيمنتها. لا يمكن لهذه المنظومة الاعتياش خارج التطرّف الطائفي، وهو ما يظهر في أدبيات مناصريها الذين يبدون أقرب إلى آلاتٍ تكرّر ما يقوله "القائد" من دون تفكير، بدلاً من التطلع إلى خارج الصندوق واكتشاف الحقائق، وأبرزها أن هذا "القائد" ليس سوى بيدق بيد الخارج، ويتصرّف وفقاً لإرادة الخارج.
في خضمّ هذه المعادلة، يبقى سؤال واحد: إلى متى سيستمرّ الإشراف المباشر من الخارج على لبنان؟ في الواقع، سيبقى إلى أن ينتهي ملف شرق المتوسط، وهو أمرٌ لن يحصل في القريب العاجل. وعليه، سنشهد تغييرات كثيرة في لبنان، من أعلى الهرم إلى أسفله، شبيهة بلحظة ما قبل إعلان "دولة لبنان الكبير" عام 1920.