لجنة "إعدام الكتب" في مصر

17 ابريل 2015
+ الخط -
العنوان أعلاه ليس فانتازيا، أو مبالغة لغوية، وإنما هو اسم اللجنة التي شكلتها وزارة التربية والتعليم في مصر، من أجل التخلص من الكتب التي تقول الوزارة إنها "تحض على العنف والإرهاب". وفي مشهد سينمائي "ركيك"، أحرق مسؤولون موتورون في الوزارة مجموعة من الكتب، في فناء إحدى المدارس الخاصة، على مرأى من الطلاب ومسمعهم، في مشهد ينتمي، بامتياز، للقرون الوسطى، أو قرون الظلام التي عرفتها أوروبا.
ما يثير الغثيان في هذا المشهد "الهابط" أنه، وكما قالت الوزارة في تصريحات نشرتها الصحف المصرية، جاء بناء على "تعليمات أمنية"، وبمشاركة مندوب من وزارة الداخلية. ولاستكمال المشهد، جرى إحراق الكتب على وقع أنغام ورقصات "وطنية"، في حين حمَل المتورطون في هذه الجريمة العلم المصري دليلاً على "الوطنية"، وكأنهم يؤدون مهمة قومية. ولا عجب أن السيدة التي قادت "غزو إعدم الكتب"، كانت إحدى المرشحات لتولي وزارة التربية والتعليم، وتحتفظ بعلاقات جيدة مع الأمن ووزارة الداخلية، ويبدو أنها تحاول تقديم قرابين الطاعة والولاء لرؤسائها من أجل أن يلتفتوا إليها، ويمنحوها وساماً، أو يصدروا قراراً بترقيتها، تقديراً لجهودها في محاربة "التطرف".
ولعل الطريف في "غزوة إعدام الكتب"، التي قادتها الحاجة بثينة أبو كشك، وكيل مديرية "التربية والتعليم" في الجيزة، أن كثيراً من الكتب التي تم إحراقها لا تروّج أفكار جماعة الإخوان "المحظورة" كما يدّعى المسؤولون، وإنما معظمها تتناول موضوعات عامة، بعضها مهم كالتاريخ الإسلامي، والبعض الآخر سطحي، يتحدث عن "عالم الجن والشياطين"، ولا يشكل تهديداً للعملية التعليمية، بل الأطرف أن بعض الكتب التي تم إحراقها تروج للفكر "التنويري"، وربما تساعد في إنجاز "الثورة الدينية"، التي يقودها الجنرال، عبد الفتاح السيسي، ويبشّر بها إعلامه وحواريوه "التنويريون"، ومنها "الإسلام وأصول الحكم" للشيخ علي عبد الرازق، و"أصول الحكم فى الإسلام" للدكتور عبد الرازق السنهوري، و"منهج الإصلاح الإسلامي" للدكتور عبد الحليم محمود، بل تشمل قائمة الكتب التي أُحرقت كتباً كتبها صحافيون ومثقفون محسوبون على الدولة المصرية ونظامها السياسي، مثل سمير رجب ورجب البنا، وغيرهما، مما يؤكد مدى جهل القائمين على لجنة "إعدام الكتب" في مصر وحماقتهم.
أعاد مشهد "إحراق الكتب" في فناء مدرسة مصرية إلى الأذهان جرائم مماثلة حدثت في حقب مختلفة من التاريخ، بدءاً مما قام به الإمبراطور الصيني، شي هوانج تي، عام 212 قبل الميلاد، حين أحرق مئات الكتب التاريخية، خوفاً من تأثيرها على الوحدة الصينية، ومروراً بما حدث على أيدي المغول، حين احتلوا بغداد، عاصمة الخلافة العباسية، وأحرقوا الكتب وألقوها في نهر دجلة، حتى اسودت مياهه من الحبر، لكثرة ما ألقى فيه من الكتب، وانتهاء بما حدث في الأندلس، عقب سقوط غرناطة عام 1492، وما تلاها من أحداث مرعبة، نتج عنها إحراق نحو مليون كتاب ومخطوطة، كان أشهرها ما حدث في ساحة باب الرملة، بعد أن أصدرت الملكة الكاثوليكية، إيزابيلا، قراراتها الشهيرة بمطاردة وملاحقة المسلمين الأندلسيين سنة 1502. والآن، وصل الأمر إلى مصر، التي أصبحت تضرب كل يوم مثالاً للجهل والتخلف وانعدام الحكمة.
"إعدام الكتب" في مصر هو استكمال لحلقة الإعدامات التي أصبحت تطال كل شيء في مصر الآن، بدءاً من إعدام النفوس، وانتهاء بإعدام الضمائر والعقول. فكل ما ومن يخالف السلطة يجب إعدامه والتخلص منه. ولا أدري كيف سيتم تأريخ هذه الحقبة "السوداء" من تاريخنا، إلا بكونها حقبة "التنوير الزائف".

A6B2AD19-AA7A-4CE0-B76F-82674F4DCDE4
خليل العناني

أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية في جامعة جونز هوبكنز الأميركية. عمل كبير باحثين في معهد الشرق الأوسط، وباحثاً في جامعة دورهام البريطانية، وباحثاً زائراً في معهد بروكينجز.من كتبه "الإخوان المسلمون في مصر ..شيخوخة تصارع الزمن".