تبدو مشاهد الشباب المتسكّعين، في الأحياء اللبنانية، طبيعية. ترتفع نسبة البطالة في البلد، ومعها عدد المتحلّقين حول عربات "الإكسبرس". تتعالى الشتائم في جلسات الشباب التي تصل الليل بالنهار، يمضون وقتهم خلالها بلعب "الورق"، وتناول الوجبات الجاهزة من المطاعم القريبة، واستهلاك أنواع المشروبات كافة.
تزول العفويّة عن تلك الجلسات كلما دققّ المرء في طبيعة التجمّع. يلتفّ خليط من الشباب اللبنانيّ والفلسطينيّ والكردي حول شخص واحد. تظهر أعقاب المسدسّات من تحت قمصانهم. تركُنُ قربهم سيّارات داكنة الزجاج بشكل دائم. يختفون مع كل حدث أمنيّ ويعودون بعدها بأيّام كأن شيئاً لم يكن. يستضيفون عناصر المخابرات والأجهزة الأمنيّة في جلساتهم. يفرضون "الخوّات" في بعض الأحياء على ورش البناء، وشركات توزيع خدمة "الساتلايت"، بحسب ما يقول شريك في إحدى تلك الشركات في منطقة "كورنيش المزرعة" في بيروت.
هم ليسواً شباناً عادييّن، بل عناصر المجموعات الأمنيّة التابعة لقوى "8 آذار". تنتشر تلك المجموعات في أغلب المناطق اللبنانية من صيدا إلى طرابلس مروراً بالعاصمة بيروت. تختلف المسميّات التي يجتمع تحتها أولئك العناصر من العائلات كـ "الموري" في طرابلس، "سرايا المقاومة" و"تيار الفجر"، مروراً بأسماء مسؤولي تلك المجموعات كـ "الشيخ ماهر حمود" و"الشيخ صهيب الحبلي" في صيدا، و"الديريكي"، "عكنان" "رجب السوري"، و"البوي" في بيروت.
خط دفاع أول لحزب الله
يقود المجموعات المسلّحة الدائرة في فلك قوى 8 آذار، مسؤولون محليّون. لا يتجاوز عدد أفراد المجموعات عشرة مسلّحين في أغلب الأحيان. يقول مصدر حزبيّ متابع لملفّ التسليح إنّ "الشباب من أصحاب السوابق الجرميّة، يستخدمهم حزب اللّه على مستويين: الأوّل لأداء مهام أمنيّة بسيطة كتبادل الرسائل السياسية مع الحلفاء والخصوم من خلال قطع الطرقات بالإطارات المشتعلة، وإطلاق النار في مناسبات معيّنة وجمع المعلومات". يستفيد الحزب كذلك من تلك المجموعات المنتشرة في كافة المناطق اللبنانيّة "كخط دفاع أوّل عنه في أي معركة داخليّة"، يتابع المصدر.
يخضع العناصر الجدد لدورات "محو أميّة عسكريّة" قصيرة لا تتجاوز الشهر الواحد في مراكز تدريب تابعة لحزب اللّه. يغيب الشباب طوال المدّة ويعودون بجديّة أكبر، تلاحظها العائلة والمقرّبون. لا يتعدىّ سلاح العناصر الذي يستلمونه بعد "التخرّج"، المسدسات والبنادق الرشاشة من طراز "كلاشينكوف" وعدداً محدوداً من الطلقات، وقنبلتين.
من 200 إلى 600 دولار شهرياً
يبلغ "راتب" العنصر في مجموعات بيروت مئتي دولار أميركي شهريّاً، بينما يرتفع في طرابلس وصيدا إلى الـ600 دولار بسبب حساسيّة الوضع الأمني في المدينتين. يتكفّل مسؤولو المجموعات كذلك بمصروف "الشباب" اليوميّ من طعام وشراب لدى مجموعات المشايخ، وسجائر "وحتى الحبوب المخدّرة التي يتعاطاها معظم العناصر لدى باقي المجموعات"، بحسب المصدر نفسه.
لقد تولى مسؤولو المجموعات، تقاضي المبالغ المالية وتوزيعها على عناصرهم حتى السابع من مايو/أيار 2008. شكّل اليوم الذي انتشر فيه مسلّحو الحزب في كافة المناطق اللبنانيّة، نقطة مراجعة لشكل العلاقة مع المجموعات المسلّحة. "فشلت المجموعات يومها في أداء المهام الموكلة إليها بشكل دقيق، فاتخذ تحرك حزب الله يومها طابعاً مذهبياً حاداً" يقول المصدر. لم تقتصر أعمال العناصر على مذهبة التحرّك، وفق مصدر مقرّب من حزب اللّه، إذ "انضم عدد من المسلحين الموالين للحزب الى قوى 14 آذار، وفي البقاع الغربي شارك العشرات من أنصار الوزير عبد الرحيم مراد، الى جانب أنصار تيار المستقبل في الاشتباكات، وفي جبل لبنان كذلك، شارك أنصار النائب طلال ارسلان المسلحيّن من قبل الحزب، في الاشتباكات الى جانب مقاتلي وليد جنبلاط... ضد حزب الله". قرّر الحزب يومها تولي الإدارة المباشرة للمجموعات بحسب المصدر، "وأصبح يدفع الأموال للعناصر مباشرة، ويبلغهم التعليمات الأمنيّة من دون الرجوع إلى المسؤول المباشر".
"سرايا المقاومة"
برز اسم "سرايا المقاومة" (القوة الأكثر تنظيماً وانتشاراً) في عدد من الأحداث الأمنيّة. أسقطت قوى الثامن من آذار حكومة الرئيس سعد الحريري في عام 2011. نزل يومها أعضاء حزب الله وحركة أمل بتشكيلات عسكرية غير مسلّحة في بيروت فيما عرف بانتشار "القمصان السود".
كما حاول مجهولون إحراق مقرّ قناة "الجديد" في بيروت عام 2012، وتمكنّت القوى الأمنية من توقيف أحد الفاعلين، ليتبيّن أنه أحد عناصر "السرايا"، ويُدعى وسام علاء الدين. أُخلي سبيل الرجل بعد أيام من توقيفه وأقفل الملف قضائياً. وفي عام 2013 اعتدى عناصر من "السرايا" على شيخين من دار الفتوى في منطقة "الخندق الغميق" في بيروت.
وعاد اسم "السرايا" ليظهر بقوة في صيدا خلال معركة عبرا. خاض يومها مسلّحو الشيخ أحمد الأسير معركةً مع الجيش اللبنانيّ بين الأحياء السكنيّة في المنطقة. اتّهم الأسير حزب الله و"السرايا" بافتعال المعركة والمشاركة فيها.
يقارب عدد عناصر "السرايا" الثلاثمائة في بيروت، على ما يؤكد المصدر المتابع. يضاف إليهم حوالى مئتي عنصر موزّعين على مسؤولي المناطق المتفرّقة والأحزاب كـ "القومي" و"الشيوعي" و"المرابطون" بقيادة مصطفى حمدان.
يوسّع مسؤولو المجموعات نشاطاتهم مع توسّع الامتداد السكاني لبيروت إلى الجبال المجاورة كعرمون وبشامون. يؤكّد جيران رئيس "التياّر العربي"، شاكر البرجاوي، مشاهدة مسلّحين داخل "الفيلا" الخاصة به في عرمون، لا بل إن برجاوي ينشرهم على امتداد الشارع المؤدي إلى منزله أحياناً.
في صيدا، تتنوعّ تبعيّة المجموعات المسلّحة بين "سرايا المقاومة"، و"التنظيم الشعبي الناصري" ويترأسه النائب السابق أسامة سعد، و"تيار الفجر" برئاسة عبد الله الترياقي (وهو المسؤول العسكري السابق للجماعة الإسلامية، وهي الفرع اللبناني لتنظيم الاخوان المسلمين)، ويتبع بعضهم عدداً من المشايخ السنة الموالين لحزب الله كالشيخ ماهر حمود وصهيب حبلي. وبحسب مصادر مطلعة عن كثب على وضع هذه المجموعات، يتقاضى هؤلاء مبالغ شهريّة "تترواح بين عشرة آلاف دولار أميركي ومائة ألف، باعتبارهم وجوهاً عامّة في بوابة الجنوب، وبسبب حساسيّة الوضع الأمنيّ".
مشاريع مستقبلية
يقارب عدد مسلحي المجموعات الخمسمائة، يضاف إليهم عناصر حزب الله وحركة أمل وبعض الأحزاب كـ"القومي السوري" و"البعث"، إحدى مهامهم تتمحور حول تأمين طريق صيدا ــ بيروت المهددّ بالقطع عند أيّ حدث أمنيّ، وهي التي يوليها حزب الله اليوم أهميّة خاصة. ويعمد الحزب، بحسب المصدر، "إلى تسليح مجموعات مؤيدة له في إقليم الخروب (ذي أغلبية سنيّة) المشرف على طريق صيدا ــ بيروت، لا سيما عن طريق النائب السابق زاهر الخطيب، وعضو تجمع العلماء المسلمين الشيخ زهير جعيد". مهمّة هؤلاء محددة: منع قطع الطريق بأية حال من الأحوال، والقيام بهذه المهمة باسم "أهالي المنطقة"، عوضاً عن التدخل المباشر لحزب الله.
وفي إقليم الخروب أيضاً، يترأس الوزير السابق وئام وهاّب حزب التوحيد العربيّ. تقول المصادر إن وهاب "سلّح مئات العناصر الموالين لسوريا في منطقته". كما يحافظ النائب طلال إرسلان على عدد من المجموعات، رغم إخفاقات حقبة السابع من مايو/أيار.
تظهر التجمّعات الشبابيّة بإطار "إسلاميّ مُلتزم" في مدينة طرابلس شماليّ لبنان. يقول المصدر إن حزب الله "يسلح العناصر التابعة لجبهة العمل الإسلامي وحركة التوحيد الإسلاميّة". يتحدث الأهالي هناك عن انضمام مئات الشباب إلى الشيخ هاشم منقارة تحت عنوان "المقاومة" وبمبالغ شهريّة لا تقلّ عن الـ 600 دولار أميركي.
يوالي أفراد عائلة "آل الموري" في منطقة "الزاهريّة" الطرابلسية، حزب الله، ويرفع أبناؤهم رايات الحزب الصفراء أمام مكتب أمنيّ لهم في المنطقة. وقد قتل مجهولون حسام الموري، الشابّ الثلاثيني عام 2013، على خلفيّة دعمه للحزب فاختفت الأعلام وبقي الولاء.
وإلى جانب هؤلاء، لا يُمكن تجاوز الحزب العربي الديمقراطي في طرابلس. فهذا الحزب، يتولى الإشراف على محاور جبل محسن في مقابل محاور باب التبانة في طرابلس، ذات الغالبية السنيّة. ويترأس الحزب العربي النائب السابق علي عيد، وهو من المقربين من آل الأسد، وبات منذ يومين مطلوباً للقضاء بتهمة المشاركة في تفجيري مسجدي السلام والتقوى في أغسطس/آب الماضي. وتُشير مصادر طرابلسيّة إلى أن الجيش السوري ترك عند انسحابه من لبنان عام 2005، كمية سلاح كبيرة في جبل محسن، لصالح الحزب العربي الديمقراطي.