يدخل رئيس الحكومة اللبنانية سعد الحريري، اليوم الخميس، مجدداً قاعة الاحتفالات في واجهة بيروت البحرية، في الذكرى الـ14 لاغتيال والده رئيس الوزراء السابق، رفيق الحريري. وحدها هذه القاعة باتت ثابتة، فيما كل شيء آخر تغير منذ اللحظة التي هزت يوماً لبنان والمنطقة، في 14 فبراير/ شباط 2005، مع اغتيال الحريري الأب. سيدخل الحريري الابن ليستذكر لحظة سياسية صنعت خروجاً للوصاية السورية من الباب، لكنها عادت من الشباك بوجوه جديدة، وبسطوة أكبر، فأطبق نظام "حزب الله"، برعاية إيرانية، قبضته على البلد.
يدخل اليوم سعد الحريري قاعة الاحتفالات ليحكي قليلاً عن ذكرى والده وكثيراً عن خيارات سياسية متذبذبة. سيحاول مجدداً إقناع من بقي في مسيرة تيار "المستقبل" أو "14 آذار"، أن هذا "أفضل الممكن". سيغوص كثيراً في "مشروع رفيق الحريري"، سيكرر أنه "يحاول إنعاشه"، على الرغم من أنه دفن، وسيكرر أيضاً الحديث عن حكومة يريدها منتجة، على الرغم من إدراكه أن والده كان يوماً ما مكبلاً بحكومات تشبه حكومة الحريري الحالية.
تدريجياً أسقط مشروع "14 آذار". الضربة الأولى كانت عندما وقف يوماً البطريرك الماروني نصر الله بطرس صفير رافضاً "إسقاط رئيس الجمهورية الماروني في الشارع". يومها تراجعت "14 آذار" عن معركة إسقاط الرئيس إميل لحود، لأسباب متعلقة بالمعادلة اللبنانية الطائفية.
ارتكب صفير يومها خطأ بحق المشروع والقوى التي رعاها، وكان عرّابها، قبل أن يستدير من بقي في 14 آذار، كل إلى طائفته، وإلى بيئته. عاد الحزب التقدمي الاشتراكي، حزباً درزياً قلقاً على حضور طائفته في المعادلة اللبنانية، بعد أحداث 7 مايو/أيار 2008 (حين اجتاح حزب الله بيروت عسكرياً). وعادت "القوات اللبنانية" حزباً مسيحياً يعطي الأولوية لمعركة سياسية وانتخابية مع غريمه "التيار الوطني الحر"، بالتفاهم أو بالعداء. وعاد تيار "المستقبل" تياراً سنياً و"أبا السنّة"، يهمه إبقاء حضوره في المعادلة السياسية اللبنانية عبر موقع رئاسة الحكومة السني. انتهت عملياً "14 شباط" عندما انتهت "14 آذار". فقد فشلت هذه القوى في تقديم نموذج يختلف عن نموذج السياسة أيام الوصاية السورية، أو عندما فشلت في بناء مشروع وطني مناقض لمشروع "حزب الله"، ونظرته إلى لبنان.
شكل مشروع "14 آذار" فعلياً تهديداً حقيقياً لـ"حزب الله"، ولمنظومته الفكرية، وإن لم يكن لسلاحه بطبيعة الحال، قبل أن ينجح الحزب في تحييد المدنيين والعلمانيين في "14 آذار"، ولاحقاً إعادة الأحزاب الرئيسية إلى خنادقها الطائفية، تحقيقاً لتصوره الذي يرى لبنان، وفق منطق المؤتمر التأسيسي الذي دعا إليه يوماً، نظاماً تشاركياً بين الطوائف، على نقيض اتفاق الطائف، الذي لم تخض "14 آذار" يوماً معركة تطبيقه.
كثيرة هي المحطات منذ عام 2005 التي روّض خلالها "حزب الله" قوى "14 آذار"، قبل أن ينتقل إلى مرحلة التعامل بالمفرق معها. رضخ أولاً، وقبل الجميع، "التيار الوطني الحر" بإغراءات السلطة عبر التحالف مع الحزب والنظام السوري، وحقق له الحزب ما أراد. ورضخ لاحقاً الحزب التقدمي الاشتراكي، بقوة السلاح وخوفاً على عدد الدروز الذين شبههم يوماً وليد جنبلاط مع الموارنة بـ"الهنود الحمر". ورضخ قبل سنوات سعد الحريري، بعد أن بات وحيداً مطوقاً بتجربة سياسية لم تسعفه فعاد "أباً للسنة"، وحتى سمير جعجع اختار أخيراً العودة إلى الساحة المارونية التي يتقن اللعب فيها.
باجتياح "حزب الله" بيروت عسكرياً في 7 مايو 2008 أُلحقت ضربة بالتفاهمات السورية السعودية حول لبنان، التي عُرفت في لبنان بتفاهم "سين – سين". تلك المرحلة التي دفعت سعد الحريري إلى المبيت في قصر المهاجرين في العاصمة السورية دمشق، مع "قَتَلَة والده" كما يتهم. وتلك المرحلة التي أكدت أن السياسة السعودية، تقوم على المدى القصير، ولا تستند إلى تكتيكات أو مواقف، بل إلى خطوات متسرعة، وغير مدروسة.
تعامل "حزب الله" مع الحريري بالكثير من الفوقية خلال كل هذه المرحلة. فوقية السلاح الذي طوق بيروت، وفوقية السياسة التي أسقطت حكومته، وهو في زيارة إلى واشنطن وخلال لقاء الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما. ولم يجد سعد الحريري طريقة لمواجهتها سوى بالرضوخ، مرتضياً حمل الهم الاقتصادي، والابتعاد عن السياسة والأمن. وهي ذاتها المعادلة التي حكم خلالها رفيق الحريري بين عامي 1993 و2005. قيل له يوماً "الاقتصاد لك، والأمن لنا". عملياً، لم يسلّم النظام السوري الاقتصاد فعلياً للحريري الأب من دون ثمن. ومع أن الأب نجح في مكان ما، إلّا أنه نجاح لا يبدو أنه سيكون حليف سعد الحريري.
تختلف الظروف بين مرحلة رفيق الحريري ومرحلة سعد الحريري اليوم. مرحلة رفيق الحريري كانت عبارة عن مرحلة توافق دولي وإقليمي. مرحلة كان يُراد للبنان أن يكون فيها "نموذجاً"، برعاية فرنسية أميركية سورية سعودية ايرانية، ومرحلة اليوم هي مرحلة اشتباك إقليمي بين هذه القوى على رقعة المنطقة الممتدة من لبنان إلى سورية والعراق وصولاً إلى اليمن.
رضخ سعد الحريري منذ أن أعلن يوماً من أمام المحكمة الدولية عند انطلاق أعمالها فصل السياسة اللبنانية عن المحكمة، وعن أعمالها وما سيصدر عنها، لكنه على ما يبدو لا أثر فعلياً لها. فقد رضي الحريري بالبقاء في الساحة السياسية، في مقابل التخلي عن خيار مواجهة "حزب الله".
تخلى كثر عن الرجل، واستفاد منه كثر أيضاً. البعض تحدث عن تعرّضه لـ"الطعن" من القريبين. لعلّه الوحيد في تيار "المستقبل" من بين القيادات الذي يعاني من شح مالي. بنى البعض في تيار "المستقبل" إمبراطوريات مالية على اسم الحريري الأب والحريري الابن، وبعض آخر جلس في مجلس النواب مشرّعاً من دون تشريع، أو وزيراً محسوباً على الحريري من دون أن يقدم شيئاً. يعوّل الحريري اليوم على العودة إلى الحكومة لبناء مجد سياسي ضائع. تعويل يبدو بعيداً في مرحلة الانهيار، وفي مرحلة الصراعات الإقليمية والدولية. كما يعوّل على عودة مجد مالي ورثه لكنه فقده بفعل من حوله، وبفعل الفساد والسرقة، وبفعل خلافات عائلية لا تنتهي. يعوّل سعد الحريري تحديداً على إعادة إعمار سورية، وعلى نفط لبنان، وغيرها من الملفات التي يقال إنه سيدخلها بالشراكة مع "صديقه" وزير الخارجية جبران باسيل.
ماذا بقي من 14 شباط؟ عملياً لا شيء سوى القرار المنتظر عن المحكمة الدولية الخاصة بلبنان هذا العام. ذلك سيكون واضحاً في خطاب الحريري المرتقب اليوم. سيعود للحديث عن بناء الدولة، وعن الوعود، وعن الشعارات. لن يتحدث هذه المرة عن مشاريع سياسية وطنية. سيعرج ربما على اتفاق الطائف، والدستور، والتمسك بهما، من منطلق تأكيد الشعارات لا تطبيقها، سيكون بعض الحضور غريباً عن هذه القاعة، مثل غرابة خطاب سعد الحريري، الذي ارتضى أن يكون رئيساً لحكومة لا يمون عليها.
وربما للمرة الأولى سيكون صبغ المناسبة بوصف الذكرى حقيقياً. باتت ذكرى يوم انتهى المشروع. يوم أسقط مشروع بناء الدولة المدنية التي رفع يوماً. وباتت ذكرى تنتظر يوماً أن يحضر في صفوفها الأمامية ممثلون عن "حزب الله". إن لم يكن هذه السنة فربما في العام المقبل.