لم تعد محافظة عكار (عند الحدود الشمالية بين لبنان وسورية)، مكاناً آمناً للجيش اللبناني. في هذه المنطقة التي لا يكاد يخلو منزل فيها من جندي حالي أو متقاعد في المؤسسة العسكرية اللبنانية، تتوالى الاعتداءات على الجيش لتحصد أرواح جنوده. وقعت حافلة تابعة للجيش، صباح الجمعة، في كمين نصبه مسلّحون في بلدة البيرة العكارية، فسقط جندي قتيلاً وجرح زملاء له، لتكون المؤسسة العسكرية خسرت جندّيها الثاني في اعتداءات مماثلة في عكار، في غضون أقل من عشرة أيام.
وتقوم وحدات عسكرية، منذ أسبوعين، بتنفيذ عمليات دهم وانتشار في قرى مختلفة من المحافظة، بناءً على معلومات وتقارير داخلية وأجنبية تبعث القلق من إمكانية قيام "تنظيمات إرهابية" (جبهة النصرة وتنظيم الدولة الإسلامية) بتأسيس فرع لها في شمال لبنان، خصوصاً أنّ ثلاثة جنود لبنانيين من عكّار أعلنوا انشقاقهم عن الجيش، على التوالي، في الأسابيع الماضية، وانضموا إلى المجموعات المسلحة المنتشرة في جرد بلدة عرسال، عند الحدود مع سورية شرق لبنان. وتركت معارك عرسال (مطلع أغسطس/آب الماضي، بين الجيش والنصرة وداعش) تأثيراتها على كل لبنان، وتحديداً على المناطق ذات النفوذ السني، كشمال لبنان. ومن حينها انطلقت الاعتداءات على الجنود اللبنانيين في الشمال، بعمليات إطلاق نار أو استهداف بعبوات ناسفة أو إلقاء قنابل يدوية في عكار وطرابلس ومناطق شمالية مختلفة.
وتقول مصادر أمنية لـ"العربي الجديد" إنّ المعلومات الميدانية "تؤكد حتى الساعة عدم وجود مجموعات إرهابية منظمة في شمال لبنان"، وهو ما تؤكده عمليات الدهم والاعتقالات المتلاحقة لعشرات اللبنانيين والسوريين المتّهمين بالتورّط والتقرّب من الأطراف المتشدّدة. وتضيف هذه المصادر أنّ غياب هذه التنظيمات "لا يلغي وجود أفراد ومجموعات صغيرة تسعى إلى هيكلة نفسها بهدف إطلاق مشروع جهادي يهدّد الدولة وأبناء عكار". ويرد في التقارير الأمنية أنّ هذه المظاهر باتت منتشرة في مناطق الشمال عموماً، وتحديداً عكار والضنية وطرابلس (أي تقريباً كل الشمال اللبناني المحسوب على الطائفة السنية). هذا ما أثبتته التحقيقات الأمنية في الأسابيع الماضية، وما يؤكد عليه أيضاً عدد من رجال الدين العكاريين الذين يشير أحدهم إلى "وجود أنصار لداعش، وليس داعش في شمال لبنان"، أي مجموعة من المراهقين والشبان المتحمّسين الماضين خلف التطرّف ويسعون إلى البروز. هم بشكل أو بآخر، يبحثون عن راعٍ لهم وعن طرف يموّلهم ويساعد هذا المشروع المتطرّف الذي يمثّلونه. ويرى هؤلاء أن إطلاق النار على الجيش ما هو إلا محطة للظهور، فيحصدون أرواح العسكريين على التوالي.
"داعش" غير مهتم
يأتي استهداف الجيش مجدداً في الشمال، على الرغم من إعلان الناطق الرسمي باسم كتائب عبد الله عزام (الفرع اللبناني لتنظيم القاعدة)، سراج الدين زريقات، قبل أسبوع، تحييد المؤسسة العسكرية والتصويب على حزب الله فقط. يعزّز هذا الإعلان تصويب العيون الأمنية، وكذلك أحاديث ضباطها في مجالسهم الخاصة، على داعش وأنصاره فقط. في حين أنّ اللغة الأمنية لمعظم الأمنيين لا تفرّق بتاتاً بين داعش وغيره من التنظيمات، سواء كان تنظيم القاعدة أو جبهة النصرة أو غيرها.
وفي هذا الإطار يقول رجل دين شمالي لـ"العربي الجديد" إنّ مسؤولين في تنظيم الدولة الإسلامية أبلغوا رجال دين لبنانيين أنّ "الساحة اللبنانية ليست في أولوية التنظيم اليوم، بوجود دولة الخلافة بين العراق وسورية وفي زمن الحرب الدولية على هذه الدولة". يعني ذلك بشكل أو بآخر، أنّ كل ما يجري في الشمال اللبناني اليوم، عبارة عن عمل هواة جدّي، ليس وراءه أي طرف متماسك ومنظّم يسعى وراء إعلان ولاية إسلامية في عكار أو طرابلس أو شمال لبنان.
عكّار: خزّان عسكري
وبينما تتّهم أطراف سياسية، منطقة عكار، والمناطق السنية عموماً، بتشكيل "بيئة حاضنة للإرهاب والتشدّد"، فإنّ واقع الحال في هذه المحافظة مغاير تماماً. يقول النائب عن عكار في كتلة المستقبل، معين المرعبي، لـ"العربي الجديد" إنّ "المعتدين على الجيش في المنطقة ليسوا من نسيجها ولا من أهلها". ويعدّد المرعبي أعداد الضباط في الجيش من قرى وبلدات عكارية، وتحديداً من البيرة حيث وقع الاعتداء الأخير. ويتهم النائب الشمالي حزب الله بمحاولة إيقاع صدام بين أهل عكار والمؤسسة العسكرية، بينما أهل عكار هم أهل الجيش وأهل العسكر، باعتبار أنّ هذه المحافظة كانت ولا تزال تشكّل الخزان البشري للجيش، لاعتبارات عدة، أهمها الوضع الاقتصادي الذي يدفع آلاف العكاريين إلى الانتساب إلى المؤسسة العسكرية لتأمين لقمة العيش والضمانات الاجتماعية الأخرى. ويشير المرعبي إلى أن نتيجة التحقيقات الأمنية، "تبين أنّ المعتدين على الجيش في طرابلس في الآونة الأخيرة، ينتمون إلى أحزاب وتيارات قريبة وحليفة من حزب الله"، الأمر الذي يعزّز الفرضية عن وضع الجيش في مواجهة أبناء الشمال.
تختلف الاعتداءات على الجيش بين طرابلس وعكار وسائر المناطق الأخرى في شمال لبنان، وتتعدّد أسبابها. إلا أنّ الهدف الأساسي للأجهزة الأمنية "سيكون مخيمات ومناطق تجمّع اللاجئين السوريين"، بحسب ما يقول أحد الضباط لـ"العربي الجديد".