في السنوات الأخيرة، اتخذ جدل التطبيع في لبنان أبعاداً كثيرة، بسبب سعة انتشار المواقع والاتصالات الإلكترونية والمنصّات والانفتاح بين العالم، وتبادل الآراء والمعلومات ووسائل الترفيه، من أقلام وأغان وفيديوهات، وأصبحنا أمام سؤال واحد: هل نحن فعلاً في لبنان بمنأى عن التواصل مع العدو المحتل؟
أسئلة كثيرة ومحاضرات وندوات فتحت النقاش حول ذلك، معظمها يدعو إلى المقاطعة النهائية، وبعضها لا يرى مشكلة في عرض فيلم لـ سبيلبرغ في بيروت، ومواجهة قرار الحملات التي تلوم سبيلبرغ لدخوله الأراضي المحتلة وتصوير فيلمه هناك. هذا لوحده كاف للجزم بأن التطبيع يتحايل على مشاهدي الفيلم وسيدخلهم، بحسب المقاطعة، من الباب الضيق عبر عمل سينمائي للتطبيع أو قبول فكرة المخرج لمجرد أنه صور الفيلم في الأراضي المحتلة.
نجحت كل المحاولات في لبنان للحد من "التطبيع" ثقافيًا وفنيًا مع الاحتلال الإسرائيلي، ومواجهة ذلك بشتى الوسائل والطرق، وكانت للإعلام اللبناني حصة الأسد في ثني الناس وإقناعهم بمنع فيلم أو زائر أو أغنية تناصر الكيان الصهيوني.
يواجه اللبنانيون منذ وقت "دعوات" إلى مقاطعة إسرائيل، خصوصاً لجهة المنتجات الإسرائيلية التجارية التي تتحول إلى قضية في وسائل الإعلام في حال دخلت إلى السوق اللبناني، ومواجهات أخرى يغلب عليها منطق الجدل، منها ما يخرج عبر بعض المحطات التلفزيونية من تقاذف، خصوصاً حول بعض التسميات والتعابير، مثل القول إسرائيل بدلاً من فلسطين المحتلة، أو محاولة تكريس وجود المحتل في مفردات أخرى تستعمل في بعض التقارير السياسية أو الاجتماعية التي تصل عبر مراسلين عرب من فلسطين.
لم تكن أمام اللبنانيين إلّا مواجهة التطبيع مع إسرائيل منذ زمن. موقع لبنان الجغرافي واتصاله بالحدود مع فلسطين، والاجتياح الاسرائيلي عام 1982، وما تبعه من حروب واعتداءات، انتهت بانسحاب الجيش الإسرائيلي من الجنوب، عام 2000، كلها عوامل وضعت المحتل أمام محاولات كثيرة للقفز إلى الجهة الشمالية الجغرافية الموازية، جنوب لبنان، لكن في السنوات الأخيرة ركزت محاولات التطبيع على الغناء.
ليست المحاولة الأولى لعبور المحتل عبر الأغاني إلى لبنان. لطالما سرقت إسرائيل جزءاً وافراً من الإنتاجات الفنية منذ الستينيات وحتى الساعة. لكن المواجهة تبدو أكثر ضراوة اليوم بين خطي المواجهة، وحول ما إذا كان ذلك مسموحاً أم لا، وكل ذلك يتخذ من الإعلام البديل ساحات للمواجهة وطرح الآراء، بعضها مندد تحت قاعدة أن التطبيع ليس وجهة نظر، فيما يجزم البعض الآخر أن القرية العالمية المفتوحة عبر وسائل الاتصال والميديا لم يعد بإمكانها القفز أو التغاضي عما يجري ضمنها أو حولها.
اقــرأ أيضاً
لعقود خلت، كانت الإذاعة العبرية تسرق معظم الإنتاجات العربية الغنائية، ولم تسلم السيدة أم كلثوم ولا فريد الأطرش وعبد الوهاب وعبد الحليم وليلى مراد، وفيروز، من قرصنة أعمالهم الغنائية وبثها عبر الإذاعة الناطقة باللغة العربية في فلسطين المحتلة، لكن الحال تبدلت مع السنوات، وفتحت ربما شهية المحتل لبث واستنساخ الألحان، والمطالبة بالتطبيع مع الدول العربية من خلال مجموعة من الأقنية، الغناء أبرزها.
في السنوات الأخيرة، شكل لبنان حالة من المواجهة مع مجموعة من الوسائل التي عرفت كيف تمد خطوطها، وكان لمواقع التواصل الاجتماعي سبيل آخر استجد لزوم "المعركة" والدعوة إلى التواصل ونشر الأغاني وحتى المعايدات من قبل بعض الإسرائيليين الذين يخاطبون اللبنانيين بوصفهم "أصدقاء"، ومنهم الفنانون، تماماً كما حصل مع إليسا، السنة الماضية، عندما دون لها أفيخاي أدرعي تهنئة لمناسبة عيد ميلادها، وما كان من إليسا إلا أن تنبهت للأمر ووصفته بالمحتل الوقح وقامت بحظره.
في عام 2010، اختارت مغنية إسرائيلية، تدعى سكارليت حداد، أغنية إليسا "ع بالي حبيبي" وأدتها بطريقة استفزت من خلالها المتابعين. ملحن الأغنية اللبناني سليم سلامة نشر اسمه على غلاف التعريف بكتاب وملحني ألبوم حداد الذي تضمن لحنا مسروقا من أغنية إليسا.
استنكر سليم سلامة الأمر وظهر في أكثر من لقاء إعلامي يتبرأ مما حصل، ويؤكد أنه يدخل ضمن إطار التطبيع. لكن سلامة وغيره من الملحنين اللبنانيين وقعوا في صراع من نوع آخر، وهو صراع حقوقي حول عملية التنازل عن اللحن لصالح الشركة المنتجة. "ع بالي حبيبي" هي أغنية من آلاف الأغاني التي تمتلك حقها الحصري شركة روتانا المملوكة من الأمير الوليد بن طلال، لكن الشركة نفت مراراً أن تكون لها أي علاقة بقضية استنساخ الألحان أو بيعها لمنتج آخر، في حين أن عقود الشركة السعودية مع شركات إنتاج ومنصّات عالمية غربية تتيح لهذه الشركات استعمال اللحن وبيعه لمن تشاء من دون مراجعة الشركة الأم المنتجة للعمل في الأساس.
وبالطبع، عقدت روتانا سلسلة من الاتفاقيات مع شركات تابعة لإمبراطور الإعلام روبرت مردوخ، وربما هذا ما أوصل حق التصرف بلحن أغنية لبنانية عربية إلى شركة إنتاج ومغنية إسرائيلية.
لم تقتصر القصة على استنساخ أو إعادة تسجيل الأغاني العربية بأصوات عبرية. قضايا أخرى غلبت في السنوات الأخيرة البعض يفسرها بأنها بدافع التطبيع، فيما يؤكد البعض الآخر أنها أوجه لتبادل الثقافات؛ ففي فيلم "قضية رقم 23" لزياد دويري، مجموعة من الإشكاليات التي أثارها الكاتب قبل أن يثيرها الفيلم الذي ترشح لجائزة الأوسكار، ووضع على قائمة الجوائز في معظم المهرجانات العالمية. لكن التركيز لم يكن على محتوى الفيلم، بل على محاسبة مخرجه زياد الدويري على مجموعة من المواقف التي اعتبرها البعض "تطبيعية"، كزيارته للأراضي العربية المحتلة بجواز سفر غير لبناني، ما دفع إلى توقيفه بعد نجاح فيلم "القضية 23" وخضوعه للتحقيق ثم إخلاء سبيله.
من المؤكد أن في لبنان مجموعتين، الأولى تدعو بشكل كامل إلى مقاطعة كل ما هو إسرائيلي، ولا تقف عند هذا الحد، بل تحاول اللجوء إلى منع كل مناصري مفهوم الشرعية الإسرائيلية، من فنانين ومغنين وممثلين، أو أولئك الذي قاموا بزيارة الأراضي المحتلة، وليس أقله محاولة منع عرض فيلم "ذا بوست"، 2018، وانطلق المعترضون يومها، لمنع عرض الفيلم، من كون مخرجه ستيفن سبيلبرغ، صوّر مشاهد من الفيلم في القدس، فأدرج على اللائحة السوداء لمقاطعة إسرائيل التي يعدها مكتب المقاطعة التابع لجامعة الدول العربية ويلتزم بها لبنان.
أسئلة كثيرة تطرح حول هذه القضية المثيرة للجدل، والتي تخرج بين الحين والآخر إلى العلن، في محاولات شدّ العصب وعدم الانصياع لما لا يريد البعض تسميته بالحرية والانفتاح، بوجه المحتل الإسرائيلي. لكن لا شيء آخر سوى عمليات استنكار بالجملة لما يحاول المحتل بثه والتعبير عنه في الدعوة إلى السلام، وكسر الحواجز الجغرافية بين الناس والتبادل الثقافي والفني والاجتماعي.
أسئلة كثيرة ومحاضرات وندوات فتحت النقاش حول ذلك، معظمها يدعو إلى المقاطعة النهائية، وبعضها لا يرى مشكلة في عرض فيلم لـ سبيلبرغ في بيروت، ومواجهة قرار الحملات التي تلوم سبيلبرغ لدخوله الأراضي المحتلة وتصوير فيلمه هناك. هذا لوحده كاف للجزم بأن التطبيع يتحايل على مشاهدي الفيلم وسيدخلهم، بحسب المقاطعة، من الباب الضيق عبر عمل سينمائي للتطبيع أو قبول فكرة المخرج لمجرد أنه صور الفيلم في الأراضي المحتلة.
نجحت كل المحاولات في لبنان للحد من "التطبيع" ثقافيًا وفنيًا مع الاحتلال الإسرائيلي، ومواجهة ذلك بشتى الوسائل والطرق، وكانت للإعلام اللبناني حصة الأسد في ثني الناس وإقناعهم بمنع فيلم أو زائر أو أغنية تناصر الكيان الصهيوني.
يواجه اللبنانيون منذ وقت "دعوات" إلى مقاطعة إسرائيل، خصوصاً لجهة المنتجات الإسرائيلية التجارية التي تتحول إلى قضية في وسائل الإعلام في حال دخلت إلى السوق اللبناني، ومواجهات أخرى يغلب عليها منطق الجدل، منها ما يخرج عبر بعض المحطات التلفزيونية من تقاذف، خصوصاً حول بعض التسميات والتعابير، مثل القول إسرائيل بدلاً من فلسطين المحتلة، أو محاولة تكريس وجود المحتل في مفردات أخرى تستعمل في بعض التقارير السياسية أو الاجتماعية التي تصل عبر مراسلين عرب من فلسطين.
لم تكن أمام اللبنانيين إلّا مواجهة التطبيع مع إسرائيل منذ زمن. موقع لبنان الجغرافي واتصاله بالحدود مع فلسطين، والاجتياح الاسرائيلي عام 1982، وما تبعه من حروب واعتداءات، انتهت بانسحاب الجيش الإسرائيلي من الجنوب، عام 2000، كلها عوامل وضعت المحتل أمام محاولات كثيرة للقفز إلى الجهة الشمالية الجغرافية الموازية، جنوب لبنان، لكن في السنوات الأخيرة ركزت محاولات التطبيع على الغناء.
ليست المحاولة الأولى لعبور المحتل عبر الأغاني إلى لبنان. لطالما سرقت إسرائيل جزءاً وافراً من الإنتاجات الفنية منذ الستينيات وحتى الساعة. لكن المواجهة تبدو أكثر ضراوة اليوم بين خطي المواجهة، وحول ما إذا كان ذلك مسموحاً أم لا، وكل ذلك يتخذ من الإعلام البديل ساحات للمواجهة وطرح الآراء، بعضها مندد تحت قاعدة أن التطبيع ليس وجهة نظر، فيما يجزم البعض الآخر أن القرية العالمية المفتوحة عبر وسائل الاتصال والميديا لم يعد بإمكانها القفز أو التغاضي عما يجري ضمنها أو حولها.
لعقود خلت، كانت الإذاعة العبرية تسرق معظم الإنتاجات العربية الغنائية، ولم تسلم السيدة أم كلثوم ولا فريد الأطرش وعبد الوهاب وعبد الحليم وليلى مراد، وفيروز، من قرصنة أعمالهم الغنائية وبثها عبر الإذاعة الناطقة باللغة العربية في فلسطين المحتلة، لكن الحال تبدلت مع السنوات، وفتحت ربما شهية المحتل لبث واستنساخ الألحان، والمطالبة بالتطبيع مع الدول العربية من خلال مجموعة من الأقنية، الغناء أبرزها.
في السنوات الأخيرة، شكل لبنان حالة من المواجهة مع مجموعة من الوسائل التي عرفت كيف تمد خطوطها، وكان لمواقع التواصل الاجتماعي سبيل آخر استجد لزوم "المعركة" والدعوة إلى التواصل ونشر الأغاني وحتى المعايدات من قبل بعض الإسرائيليين الذين يخاطبون اللبنانيين بوصفهم "أصدقاء"، ومنهم الفنانون، تماماً كما حصل مع إليسا، السنة الماضية، عندما دون لها أفيخاي أدرعي تهنئة لمناسبة عيد ميلادها، وما كان من إليسا إلا أن تنبهت للأمر ووصفته بالمحتل الوقح وقامت بحظره.
في عام 2010، اختارت مغنية إسرائيلية، تدعى سكارليت حداد، أغنية إليسا "ع بالي حبيبي" وأدتها بطريقة استفزت من خلالها المتابعين. ملحن الأغنية اللبناني سليم سلامة نشر اسمه على غلاف التعريف بكتاب وملحني ألبوم حداد الذي تضمن لحنا مسروقا من أغنية إليسا.
استنكر سليم سلامة الأمر وظهر في أكثر من لقاء إعلامي يتبرأ مما حصل، ويؤكد أنه يدخل ضمن إطار التطبيع. لكن سلامة وغيره من الملحنين اللبنانيين وقعوا في صراع من نوع آخر، وهو صراع حقوقي حول عملية التنازل عن اللحن لصالح الشركة المنتجة. "ع بالي حبيبي" هي أغنية من آلاف الأغاني التي تمتلك حقها الحصري شركة روتانا المملوكة من الأمير الوليد بن طلال، لكن الشركة نفت مراراً أن تكون لها أي علاقة بقضية استنساخ الألحان أو بيعها لمنتج آخر، في حين أن عقود الشركة السعودية مع شركات إنتاج ومنصّات عالمية غربية تتيح لهذه الشركات استعمال اللحن وبيعه لمن تشاء من دون مراجعة الشركة الأم المنتجة للعمل في الأساس.
وبالطبع، عقدت روتانا سلسلة من الاتفاقيات مع شركات تابعة لإمبراطور الإعلام روبرت مردوخ، وربما هذا ما أوصل حق التصرف بلحن أغنية لبنانية عربية إلى شركة إنتاج ومغنية إسرائيلية.
لم تقتصر القصة على استنساخ أو إعادة تسجيل الأغاني العربية بأصوات عبرية. قضايا أخرى غلبت في السنوات الأخيرة البعض يفسرها بأنها بدافع التطبيع، فيما يؤكد البعض الآخر أنها أوجه لتبادل الثقافات؛ ففي فيلم "قضية رقم 23" لزياد دويري، مجموعة من الإشكاليات التي أثارها الكاتب قبل أن يثيرها الفيلم الذي ترشح لجائزة الأوسكار، ووضع على قائمة الجوائز في معظم المهرجانات العالمية. لكن التركيز لم يكن على محتوى الفيلم، بل على محاسبة مخرجه زياد الدويري على مجموعة من المواقف التي اعتبرها البعض "تطبيعية"، كزيارته للأراضي العربية المحتلة بجواز سفر غير لبناني، ما دفع إلى توقيفه بعد نجاح فيلم "القضية 23" وخضوعه للتحقيق ثم إخلاء سبيله.
من المؤكد أن في لبنان مجموعتين، الأولى تدعو بشكل كامل إلى مقاطعة كل ما هو إسرائيلي، ولا تقف عند هذا الحد، بل تحاول اللجوء إلى منع كل مناصري مفهوم الشرعية الإسرائيلية، من فنانين ومغنين وممثلين، أو أولئك الذي قاموا بزيارة الأراضي المحتلة، وليس أقله محاولة منع عرض فيلم "ذا بوست"، 2018، وانطلق المعترضون يومها، لمنع عرض الفيلم، من كون مخرجه ستيفن سبيلبرغ، صوّر مشاهد من الفيلم في القدس، فأدرج على اللائحة السوداء لمقاطعة إسرائيل التي يعدها مكتب المقاطعة التابع لجامعة الدول العربية ويلتزم بها لبنان.
أسئلة كثيرة تطرح حول هذه القضية المثيرة للجدل، والتي تخرج بين الحين والآخر إلى العلن، في محاولات شدّ العصب وعدم الانصياع لما لا يريد البعض تسميته بالحرية والانفتاح، بوجه المحتل الإسرائيلي. لكن لا شيء آخر سوى عمليات استنكار بالجملة لما يحاول المحتل بثه والتعبير عنه في الدعوة إلى السلام، وكسر الحواجز الجغرافية بين الناس والتبادل الثقافي والفني والاجتماعي.