02 نوفمبر 2024
لبنان: بنود الاستقلال
لم يكن كلام السفير الأميركي الأسبق في لبنان، جيفري فيلتمان، أمام لجنة تابعة لوزارة الخارجية الأميركية في الكونغرس قبل أيام، عادياً لدى اللبنانيين، على الرغم من أن موقفه بالأساس ليس أكثر من مجرد رأي، لا يُلزم وزارة الخارجية ولا يؤثر عليها. لا يهمّ. يكفي لفظ اسم فيلتمان مرتين في بيروت، ليسري القلق في أرجاء البلد.
في الواقع، من حقّ الجميع حمل قلوبهم بين أيديهم إذا تحدّث فيلتمان، لكونه عاصر مرحلة 2004 ـ 2005، بكل تداعياتها وتشعّباتها، من موجة الاغتيالات والتفجيرات، ومنها التي طاولت رئيس الحكومة السابق، رفيق الحريري، وصولاً إلى انسحاب القوات السورية من لبنان. من حق الجميع الشعور بالقلق لأسباب تاريخية، غير أنه لا يحقّ لهم الشعور بالقلق حالياً، ففيلتمان لم يعد صاحب قرار ولا من صنّاعه في واشنطن.
لا يعفي هذا من واقع أن الولايات المتحدة تتدخّل في لبنان. هذا أمر حقيقي لا جدال فيه. إيران أيضاً تتدخّل بقوة. المحوران يريدان كسب لبنان إلى جانبهما، كلٌّ لأسبابه الخاصة. ومن يظنّ أن أحدهما "يحبّ البلاد من أجل عيونها"، لن يتمكّن من رؤية الصورة بوضوح. لا يمكن مثلاً لشخص لا يؤمن بنهائية لبنان وطنا أو كيانا، ويتكلم بلغة "إزالة الحدود المصطنعة في الشرق الأوسط"، أن يتحدّث عن "تدخل أميركي"، ويتجاهل تدخلاً إيرانياً أو خليجياً أو تركياً أو غربياً آخر. وفي المقابل، لا يمكن لمن يرفع بيارق "حرية، سيادة، استقلال" القول إن "إيران تتدخّل"، لكنه يغضّ النظر عن تدخلاتٍ أميركيةٍ وغربيةٍ وخليجية وعربية وغيرها.
المعايير المزدوجة هي أساس الخلاف في لبنان. كيف يمكن معارضة تدخّل دولةٍ دون أخرى، وأنت في موقع تسعى من خلاله لكسب استقلالية القرار الوطني والسيادة، كما نصّت عليه المواثيق والمعاهدات التاريخية، من وستفاليا 1648 إلى الأمم المتحدة 1945؟ لم تكن السيادة يوماً مسألة انعزالية، بل أكثر ارتباطاً بملفات البيئة الجيوسياسية. لا يمكن في حالة لبنان مثلاً تجاهل ما يجري حولنا، والدعوة إلى النأي بالنفس، والركون إلى زاوية مريحة، لأن هذا الأمر تحديداً أدى إلى تطلّع الأميركيين والروس والأوروبيين إلى محاولة السيطرة على البلد، في وقتٍ بدا فيه الإيرانيون متقدمين أكثر من سواهم بعناوين دينية تحديداً، متناقضة مع المفاهيم المادية أو الزمنية لمعنى السيادة، في ظلّ تراجع خليجي وعربي وسوري نسبياً. لبنان غير ملزم باتخاذ قرارات مواجهة دول أخرى وفقاً لأهدافٍ دولية، بل يمكن له ممارسة نوع من الحياد الإيجابي الذي يسمح له بمعالجة مشكلاته الجمّة، ومنها الفساد والهدر والسرقة، وتنمية المجتمع وغيرها من بديهيات الحقوق. أما العداء مع الإسرائيليين، فهو أمر حتمي ولا نقاش فيه.
ومن شأن المعايير المزدوجة أن تستولد تناقضات مزدوجة. ومثالا على ذلك إن عدد الأميركيين من أصل لبناني يبلغ نحو ثلاثة ملايين شخص، ثلثهم تقريباً من المهاجرين منذ عام 1975. ومن هؤلاء نواب في البرلمان اللبناني، ينتخبون ويصوّتون في السفارة الأميركية في لبنان، في كل انتخابات أميركية. ومن النواب من ينتمي إلى محورٍ مناهض للأميركيين. في المقابل، أحد رؤساء الجمهورية السابقين مرتبط بعلاقة عائلية مع الإيرانيين، ودائماً ما يتحدّث عنها في أوساطه الخاصة، لكنه يهاجم النظام الإيراني وينتقده. حسناً أليس في ذلك تناقض؟
المسألة ليست معقّدة، بل في غاية البساطة: تريد وطناً مستقلاً ومتمتعاً بأفضل العلاقات مع مختلف الدول؟ إذاً، يجدر بك رفض أي تدخّل لأي دولة في شؤونه. البلاد لا يمكنها تحمّل بقائها بيدقاً في الصراع بين هذه الدول، وعليها لفظ النظام الذي سمح بتدخلاتٍ كهذه. صحيح أن الأمر ليس سهلاً على الإطلاق، لكن المسار الذي انطلق في 17 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي لن يتوقف، حتى تحقيق استقلال لبنان الحقيقي.
لا يعفي هذا من واقع أن الولايات المتحدة تتدخّل في لبنان. هذا أمر حقيقي لا جدال فيه. إيران أيضاً تتدخّل بقوة. المحوران يريدان كسب لبنان إلى جانبهما، كلٌّ لأسبابه الخاصة. ومن يظنّ أن أحدهما "يحبّ البلاد من أجل عيونها"، لن يتمكّن من رؤية الصورة بوضوح. لا يمكن مثلاً لشخص لا يؤمن بنهائية لبنان وطنا أو كيانا، ويتكلم بلغة "إزالة الحدود المصطنعة في الشرق الأوسط"، أن يتحدّث عن "تدخل أميركي"، ويتجاهل تدخلاً إيرانياً أو خليجياً أو تركياً أو غربياً آخر. وفي المقابل، لا يمكن لمن يرفع بيارق "حرية، سيادة، استقلال" القول إن "إيران تتدخّل"، لكنه يغضّ النظر عن تدخلاتٍ أميركيةٍ وغربيةٍ وخليجية وعربية وغيرها.
المعايير المزدوجة هي أساس الخلاف في لبنان. كيف يمكن معارضة تدخّل دولةٍ دون أخرى، وأنت في موقع تسعى من خلاله لكسب استقلالية القرار الوطني والسيادة، كما نصّت عليه المواثيق والمعاهدات التاريخية، من وستفاليا 1648 إلى الأمم المتحدة 1945؟ لم تكن السيادة يوماً مسألة انعزالية، بل أكثر ارتباطاً بملفات البيئة الجيوسياسية. لا يمكن في حالة لبنان مثلاً تجاهل ما يجري حولنا، والدعوة إلى النأي بالنفس، والركون إلى زاوية مريحة، لأن هذا الأمر تحديداً أدى إلى تطلّع الأميركيين والروس والأوروبيين إلى محاولة السيطرة على البلد، في وقتٍ بدا فيه الإيرانيون متقدمين أكثر من سواهم بعناوين دينية تحديداً، متناقضة مع المفاهيم المادية أو الزمنية لمعنى السيادة، في ظلّ تراجع خليجي وعربي وسوري نسبياً. لبنان غير ملزم باتخاذ قرارات مواجهة دول أخرى وفقاً لأهدافٍ دولية، بل يمكن له ممارسة نوع من الحياد الإيجابي الذي يسمح له بمعالجة مشكلاته الجمّة، ومنها الفساد والهدر والسرقة، وتنمية المجتمع وغيرها من بديهيات الحقوق. أما العداء مع الإسرائيليين، فهو أمر حتمي ولا نقاش فيه.
ومن شأن المعايير المزدوجة أن تستولد تناقضات مزدوجة. ومثالا على ذلك إن عدد الأميركيين من أصل لبناني يبلغ نحو ثلاثة ملايين شخص، ثلثهم تقريباً من المهاجرين منذ عام 1975. ومن هؤلاء نواب في البرلمان اللبناني، ينتخبون ويصوّتون في السفارة الأميركية في لبنان، في كل انتخابات أميركية. ومن النواب من ينتمي إلى محورٍ مناهض للأميركيين. في المقابل، أحد رؤساء الجمهورية السابقين مرتبط بعلاقة عائلية مع الإيرانيين، ودائماً ما يتحدّث عنها في أوساطه الخاصة، لكنه يهاجم النظام الإيراني وينتقده. حسناً أليس في ذلك تناقض؟
المسألة ليست معقّدة، بل في غاية البساطة: تريد وطناً مستقلاً ومتمتعاً بأفضل العلاقات مع مختلف الدول؟ إذاً، يجدر بك رفض أي تدخّل لأي دولة في شؤونه. البلاد لا يمكنها تحمّل بقائها بيدقاً في الصراع بين هذه الدول، وعليها لفظ النظام الذي سمح بتدخلاتٍ كهذه. صحيح أن الأمر ليس سهلاً على الإطلاق، لكن المسار الذي انطلق في 17 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي لن يتوقف، حتى تحقيق استقلال لبنان الحقيقي.