لبنان.. بندقية خليل

28 ابريل 2018
+ الخط -
كان يجلس على مدخل حديقته، واضعاً سلاحه على طاولةٍ بقربه. أحياناً يكون السلاح مجرّد مسدس، وأحياناً أخرى يكون بندقية. نوعية السلاح بحدّ ذاتها لا تخضع لتأويلاتٍ كثيرة. المسدس في النهار والبندقية في الليل. لكل وقتٍ في اليوم سلاحه. هكذا كان منطق جاري خليل أيام الحرب اللبنانية (1975 ـ 1990) في ظلّ غياب الشرعية وسيطرة الدويلات. كان يثمل أحياناً، فكنا نخشى ونحن أطفال، من أن يفعل شيئاً، كإطلاق الرصاص في الهواء، أو الصراخ، أو أي شيء يمكن أن يؤرّق ليلنا. ما زلت أذكر جيداً، أنه في كل مرة أضطر للاقتراب من بيته، أسير متمهلاً "كي لا يسمعني"، ثم أعدو سريعاً بعد تجاوزي البيت. لا أدري إن كنت أخشاه عملياً أم أخشى سلاحه.
كان معروفاً عن خليل "قدرته" على قطع المياه عن كل أهل الحي، حتى يروي مزروعاته، وكان يهيمن على مواقف عدة للسيارات. كان هذا "الشرير" في قصص الأطفال الليلية. طويل القامة بشعر منسدل على الكتفين، وشاربين كثيفين، وعينين دقيقتين، كان خليل أقرب إلى نموذج العملاق الذي لا ينبغي إيقاظه.
بدأت أيام الرعب بالاضمحلال. الطفل يكبر وخليل يصغر. الكبار حين يتقدمون في السنّ يعودون صغاراً. خليل هكذا. رأيت "الوجه الآخر" له، شرح لي كيف كان يخشى من أن توقف الدولة عمله في الحديقة. كان يشدّد على أنه "كنت أقطع المياه فقط لأبيع مزروعاتي بغية إطعام أطفالي. أعلم أن لدى الآخرين عائلات وأتألم لذلك. لكنني لم أكن أملك الحل. ماذا أفعل؟". وداعته في تلك اللحظات جعلتني أفكر ما الذي يُمكن أن يحوّل إنسانا من شخصٍ إلى آخر. يقول خليل "هل تعتقد أنه لو كانت هناك دولة لكنت حملت سلاحاً؟ طبعاً لا. ولا أريد لأولادي وأحفادي حمل السلاح إلا اضطراراً". بالنسبة لخليل إن سبب ما فعله كان لغياب الدولة والشرعية التي لم تستطع فرض الحلّ الأمني في لبنان، سوى بعد انتهاء الحرب، وبشكل نسبي.
بشكل نسبي، لأن الخلافات الفردية وحتى أيامنا هذه في عام 2018، تُحلّ بالسلاح الفردي والقتل، من دون أن تحسم الدولة أمرها، لا قضائياً ولا أمنياً. في أيامنا هذه، لا يُمكن الشعور بالأمان في لبنان. إن أردت شرب زجاجة ماءٍ، فأنت معرّض للقتل، وإن كنت تتجوّل في مكان ما فأنت معرّض للقتل، وإن كنت على الطريق فأنت معرّض للقتل. الاستنفار الدائم في لبنان مرهق. تعيش كل يوم، وكأنك تسعى إلى كسب يوم آخر في الحياة، لا كي تبني حياة جديدة. مُرهق هذا الاستنفار اليومي، لا بل مُجهد، يدفع الناس لتناول أدوية للأعصاب. من دون الحاجة إلى دراسةٍ لإعلامك بأن أكثر من نصف اللبنانيين يحملون في جعبتهم أدوية الأعصاب.
لا يستطيع الناس شراء منزل حتى الآن بسبب مشكلات الإسكان، كهول وعجزة يبحثون يومياً عن الطعام بين النفايات. مشهد بات اعتياديا في لبنان. لم يكن كذلك منذ سنوات. كل شيء آيل للسقوط في هذا البلد، على الرغم من الوعود بالاستثمار والأموال وغيره. لا تريدنا الدولة أن نكون رجال قانون وقضاء. تريدنا على صورتها ومثالها: سارقين وقَتَلَة ومجرمين. يريدنا هذا النظام أن نشتبك بعضنا ببعض بصورة متواصلة. ننام على فضيحةٍ طبية، ونستيقظ على فضيحة فنية. نغفو وفي بالنا أن الغد مختلف، لنستيقظ على ضرائب جديدة، وخلاف سياسي يجعلنا كغنمٍ بين سواطير اللحّامين.
تريدنا الدولة اللبنانية أن نكون كل شيء، إلا محترمين ومتسلّحين بالقانون، تريدنا مثل خليل نحمل بندقيتنا كل حين، ولا نسأل عن حق سليب ولا قضاء يحاكمنا. "افعلوا ما تشاؤون، ومن لديه واسطة لا يدخل السجن". هكذا بكل بساطةٍ منطق الدولة اللبنانية. لن ألوم خليل بعد اليوم. تريد الدولة أن تصنع من كل منا خليلا صغيرا، ونحن سنكون كذلك.
6F7A33BD-9207-4660-8AF7-0EF5E3A4CD6C
بيار عقيقي
صحافي لبناني، عمل في صحف ومجلات ودوريات ومواقع لبنانية وعربية عدّة. من فريق عمل قسم السياسة في الصحيفة الورقية لـ"العربي الجديد".