لبنان.. النكبة ليست ذكرى

16 مايو 2015
"كتاب النكبة الزجاجي"، رنا بشارة (2013)
+ الخط -

نأمل دائماً أن تمرّ طقوس النكبة بلا أضاحٍ بشرية (وخاصة على مذابح إقليمية لا علاقة لها بأصحاب العلاقة). لم أفهم يوماً لماذا نطلق على تلك الطقوس اسم النكبة، لماذا لا نسميها مثلاً طقوس العودة، ما دامت في معظمها تحاكي العودة الخلاصية وتتغنّى بها؟

بالمقابل، النكبة طقس حي وحاضر على مدار السنة في البلدان العربية الأساسية التي استقبلت المنكوبين ولم تفرط بأمانة نكبتهم. هذه البلدان لم تحافظ فقط على ذكرى النكبة، بل اجترحت معجزة إيقاف عقارب الساعة وتأبيد (من أبد) لحظة النكبة.

في هذه البلدان، أحفاد اللاجئين المنكوبين وأحفاد أحفادهم يولدون لاجئين ومنكوبين في مخيمات وبيوت التنك التي بناها الأجداد (وإن كانوا غالباً محرومين من حقوق اللجوء التي تنص عليها الأعراف الدولية). تعد ولادة ابن المخيم بحد ذاتها لجوءاً بنظر الدول المعنية وهي تُوثَّق بهذه الصفة في دائرة النفوس.

أولاد المخيم ما زالوا يتكلمون اللهجة الفلسطينية التي تكلّمها اللاجئون الأوائل ويحفظون غيباً الخارطة الفلسطينية التي لم تكن إلا جزءاً من الخارطة العربية أو السورية في عيون هؤلاء، كما كان عليه حال جبل لبنان في عين جبران خليل جبران. ابن المخيم، وإن كان قد تلقّن منذ نعومة أظافره الإيمان بالعودة الخلاصية مع أبعاده الروحية والميتافيزيقية، لا يحلم على الصعيد "الفيزيقي" إلا باللجوء من بلد لجوئه الأم إلى بلد غربي يحترم حقه كلاجئ ويسمح له حتى بأن يغدو مواطناً كامل الصفات بعد سنوات من دفع ضريبة اللجوء.

هذا الوضع البائس وغير المعقول لا يتعارض البتة مع موقع فلسطين في الوعي العربي، بل يجد تبريراً في الثوابت والمسلّمات اللاهوتية التي قام عليها هذا الأخير. فلسطين قلب العروبة ولا قيامة للأمة ما لم تسر فيه من جديد دماء العروبة، هزيمتا 48 و67 المدوّيتان لم تكونا سوى نكبة ونكسة على طريق النصر الموعود وانبعاث الأمة في لحظة ملحمية صلاح ـ دينية، وفي هذا السياق الإنكاري لا مانع من تبرير تأبيد النكبة واللجوء في سياق الإخلاص لقضية عودة اللاجئين تمهيداً لعودة الأمة.

الفلسطيني ملح العروبة وحامل قضيتها، لكن ممنوع عليه أن يتساوى مع العرب الآخرين من مواطني الدول التي لجأ إليها، بل عليه أن يبقى فيها لاجئاً منكوباً بانتظار العودة الخلاصية مقرونةً بولادة الأمة العربية الواحدة التي يفترض أن تذوب فيها الهوية الفلسطينية مع غيرها من الهويات العربية المؤقتة.

لكن، وبمعزل عن التبريرات اللاهوتية، يمكن تفسير المصير الذي آل إليه اللاجئون في سياقات داخلية للمجتمعات التي استقبلتهم. المنكوبون الذين لم يكونوا فلسطينيين بعد أن لجؤوا إلى مجتمعات كانت قد استهلّت للتو تلبننها أو تأردنها أو تسورنها.

إن كانت الهوية الفلسطينية المعاصرة ولدت من النكبة، فهذه الأخيرة كانت كذلك مرحلة مفصلية في تكوّن هوية هذه المجتمعات، وخاصة في الحالتين اللبنانية والفلسطينية. سأتوقف هنا عند الحالة اللبنانية التي عرفت المآل الأكثر دراماتيكية، عدا أنها تعنيني شخصياً.

في الكيان اللبناني الذي كان طور التشكّل، ولا زال، لم يصطدم اللاجئون بادئ الأمر بعصبية قومية متمايزة، بل بعصبية طائفية مهيمنة رأت فيهم تهديداً ديمغرافياً للكيان الذي فُصّل على قياسها. المسيحيون لم يروا في اللاجئين لا فلسطينيين ولا غرباء، بل مسلمين يهدّدون هيمنتهم.

 أما المسلمون، وكان جزء كبير منهم يعتبر أن الكيان فرض عليه ويشعر نفسه أقرب إلى المسلم الفلسطيني أو السوري منه إلى المسيحي اللبناني، فوجدوا في اللاجئين سنداً لهم في مواجهة الهيمنة المسيحية.

لو كان اللاجئون مسيحيين لكانوا على الأرجح جُنّسوا وفاقوا المسلمين اللبنانيين لبنانيةً وحقوقاً (الأمر الذي تشهد عليه المعاملة الخاصة التي حظي بها المسيحيون منهم)، كما كان ذلك ليطمئن المسيحيين اللبنانيين إلى غلبتهم العددية وربما يجعلهم أكثر ليونة مع مطالب المسلمين بالمساواة في الحقوق والمعاملة.

لكن اللاجئين كانوا في غالبيتهم العظمى مسلمين سنّة، الأمر الذي أدى إلى تقوية شوكة المسلمين وجعْلِهم أكثر جسارة في مطالبهم، في حين صار المسيحيون أكثر تخوّفاً وتحفّظاً حيالها، والتتمة الدموية معروفة مع أبعادها الإقليمية وإسقاطاتها الإيديولوجية، مقرونةً بالتطورات الدراماتيكية التي أطلقتها النكبة في العالم العربي وارتداداتها على الداخل اللبناني.

ودون الخوض في موضوع الحرب اللبنانية الشائك والمتفرّع، يهمني فقط أن أشير إلى أن الأخطاء الفادحة التي ارتكبتها القيادة الفلسطينية قبيل الحرب وأثناءها وضعت طائفة اللاجئين في مواجهة مع كل الجماعات اللبنانية الأخرى، وذلك لعب دوراً أساسياً في تشكيل هوية لبنانية جامعة في مواجهة الهوية الفلسطينية التي تشكّلت في المخيمات.

في الثامنة من عمري، أرسلني أهلي إلى مخيم تابع للحزب الشيوعي جمع أطفال المخيمات مع أطفال عائلات بائسة من كل الطوائف اللبنانية، إلى جانب عدد من أبناء الكوادر الشيوعية مثلي الذين صاروا برجوازيي المخيم. منذ اليوم الأول دبكت بين أطفال المخيمات وأقرانهم اللبنانيين، ولاحقاً صار على المسؤولين أن يهرعوا لاحتواء مفاعيل أبسط مشاحنة فردية قبل أن تتفشى كالدينامو في كل المخيم.

خلال خمسة عشر يوماً هناك، لم يسألني أحد إن كنت مسلماً أم مسيحياً، لكن كان عليّ أن أجيب بانتظام على سؤال: "فلسطيني ولّا لبناني؟". لاحقاً، وفي مواقف عديدة، حصل لي أن أقع على مسيحيين ريفيين لم يلتقوا بمسلم في حياتهم، وكانوا بعد أن يستفسروا مداورةً عن طائفتي المفترضة يحاولون التقرّب مني بالتذكير أن "الشيعة قاتلوا الفلسطينيين معهم". المؤرخ الإسرائيلي شلومو ساند يقول إن اليهودي في إسرائيل هو من ليس عربياً، ويمكن القول في سياق مشابه، إن الحرب حددت اللبناني بصفته من ليس فلسطينياً.

طائفة اللاجئين ليست بالطبع الجماعة اللبنانية الوحيدة التي حمل أفرادٌ منها السلاح وارتكبوا جرائم أثناء الحرب، لكنها بالتأكيد أكثر من دفع ثمنها ونُكّل به خلالها، ولاحقاً صارت هذه الجماعة المعذّبة كبش المحرقة ومتنفس كل أحقاد الحرب الدفينة لدى الجماعات اللبنانية الأخرى المتكارهة والمتكاذبة في ما بينها.

خلال سنوات الوصاية، عمل النظام الأمني السوري ـ اللبناني على إبقاء المخيمات بؤراً أمنية متوترة تحت سيطرته لاستخدامها عند الحاجة، واستمر على هذا النهج ورثته الممانعاتيون بعد انسحاب الجيش السوري. وفي المقلب الآخر، تجد بين الإسلاميين حديثي النعمة من يرى في التنظيمات الفلسطينية المسلحة القابضة على المخيمات عنصر توازن مع السلاح المذهبي المقابل.

لكن بغض النظر عن هذه الاعتبارات، يجب الاعتراف بأن العنصرية والكراهية المتفشية بين مختلف أطياف المجتمع اللبناني حيال الفلسطينيين (وإن بدرجات متفاوتة) سهلت إلى حد كبير ديمومة الوضع الكارثي في المخيمات وسمحت به.

لو أنني نشأت في بلد آخر غير لبنان لربما كان لي حديث آخر مع ذكرى النكبة، لكنني كبرت في مجتمع يفهم جزء كبير منه حق عودة لاجئي 48 بصفته الحق بطرد أحفاد أحفاد هؤلاء.
حق العودة هو بالتأكيد قضية محقة، لكنها ليست أولوية معيشية لمن هو في مثل وضع أبناء مخيم نهر البارد أو عين الحلوة. هذا عدا أنني لم أرتح يوماً لتعابير ملتبسة تحضر بشدة في ذكرى النكبة على غرار "اللاجئ الفلسطيني"، "فلسطينيي الشتات"، "الوجود الفلسطيني" في هذه الدولة العربية أو تلك، إلخ.

بالنسبة لي، اللاجئ الفلسطيني الذي ولد ونشأ في لبنان ليس لاجئاً ولا فلسطينياً بل هو لا يقل عني لبنانية، بالضبط كما أعتبر أن ابن المهاجر الجزائري الذي ولد في فرنسا لا يقل فرنسيةً عمّن يسمي نفسه الفرنسي الصفوة. ولا يقولن لي أحد أن ابن المخيم يعيش في مجتمع مواز ومنعزل عن المجتمع اللبناني، فالمجتمع وحدة دينامية وكل لا يتجزأ ومن يعش في أقبيته ومجاريره يقل عنه الكثير، وبل أكثر مما يقوله جزؤه الظاهر.


(كاتب لبناني/ باريس)

دلالات
المساهمون