لبنان .. الثورة التي لن تولد
من يعتقد أنه يعرف لبنان عليه التوقف عن الاعتقاد قليلاً. لم تعد البلاد كالسابق. ليس المقصود بـ"السابق" خمسينيات القرن العشرين وستينياته، بل أيامنا الحالية. انفصم الواقع اللبناني، كعادته، عن كل أحداث العصر ومجرياته. خرج من إطار الجغرافيا والتاريخ، في صورة غير معهودة. كثُر المتسولون والعاطلون من العمل في طرقات البلاد، وكثرت معهم جحافل الخرّيجين إلى الشوارع، لا إلى سوق العمل. انتصرت المدارس الخاصة، ككل سنة، من أجل جيوبها، ورفعت قيمة الأقساط من دون رادع. تنقطع الكهرباء والمياه عن العاصمة بيروت والضواحي، وكأن مدن أشباح تولد في كل زاوية من زوايا عتم لبنان، من دون ردّ فعل، وحتى ولو تأمّن البديل، فلن يكون رخيصاً، لا بل إن المياه تحديداً، ستأتيك من البحر مباشرة. لا بأس بالقليل من الملوحة في طعامك وملابسك.
من الإنترنت والاتصالات إلى الوقود والمشتقات النفطية. خطّ سير واضح للتجار والطبقة السياسية اللبنانية ومتعرّج للمواطنين. كل شيء يُجبى مرتين. حتى الصحة لم تعد "قضية مقدسة" في وطن الأرز. المستشفيات تخوض معركةً مع الضمان الاجتماعي، والضمان الاجتماعي لم يعلنها حرباً شعواء على الدولة بعد. والمريض الذي يصل إلى المستشفيات، ولا يملك ما يُمكنه من الدخول للمعالجة، مصيره الموت. لا مبالغة في الموضوع. مات طفلان في وقتٍ قريب، ولم يرفّ جفن أحدٍ لتحريك الملف قضائياً. والأسوأ أنه إذا تعرّض ظفر إصبع أي مسؤول أو سياسي أو رجل دين لبناني، إلى أي طائفة انتمى، لخدش، تُفتح له أبواب المستشفيات الخاصة مجاناً، لا بل وللمزيد من التشويق، يُسافر الأخ إلى دولة أجنبية "لاستكمال العلاج وإجراء بعض الفحوصات"، ومجاناً. وليمت أبقراط بغيظه، هو وقَسَمه.
رجال الدين، في معظمهم، لا يشعرون أن هناك شعباً يستحق الاعتناء به. يسافرون ويصولون ويجولون. يتكلمون أكثر مما يفعلون. وإن تبّرع أحدٌ بـ"فلس الأرملة"، يطلبون منه أكثر. لم تعد الأشياء مستقيمة. القضاء غير منزّه، والملفات القضائية تنام في الأدراج سنوات، حتى تحرّكها مسألة سياسية أو رشوة ما. أما الوضع السياسي فيبدو الأسوأ وسط تلك التركيبة كلها. لا مجلس نيابياً جديداً. فراغ رئاسي مستمرّ. وكل مسؤول، أو قيادي، يربط طائفته بشخصه "الكريم" أو منصبه، فيُصبح "غراندايزر" عصره.
مهلاً، في السياق الطبيعي لكل ما سبق، تكفي معضلة واحدة من المشكلات المذكورة لإثارة ثورةٍ، أو حركة تغييرية، فكيف بكل تلك المشكلات معاً؟ في الواقع، أضاعت الثورة طريقها إلى لبنان، على الرغم من كل العوامل المتوفرة والوقود اللازم لاشتعالها، لأن خيارات الشعب، بالمجمل، ما زالت أقوى من "ديالكتيك" طبيعي، يُمكنه تصحيح مشوار لبنان عبر التاريخ من خلاله.
غياب مفهوم "الثورة" في لبنان ينطلق من واقع واحد: الانتماء الطائفي وربطه بشخص أو حزب أو جماعة، والتماهي معه على أساس أنه "يحمينا من الآخر"، الذي يكون لبنانياً بالمناسبة، يؤدي إلى قيام منظومة مبنية على الكذب. فالشخص المفترض "أن يحمينا" يستفيد، ولغايات شخصية، من "طلب الحماية"، ونحن ندرك ذلك، ونقولها سرّاً وعلناً، ولكننا لا نريد تغييره لغياب البديل المناسب له، ولـ"خوفنا" من شماتة الآخر.
يكفي أن تنطلق من هذه النقطة، وتعكسها على كل مستويات الحياة اليومية اللبنانية، لتُدرك أن الرقص في داخل تلك الحلقة ميزة لبنانية. وصحيحٌ أن هناك أقلية لبنانية، قادرة على عبور الطوائف والأحزاب، إلا أنها انغمست في جدالاتٍ ثانوية عقيمة، لا تُغني ولا تُسمن. ليُصبح الواقع كالتالي: أكثرية من كل الطوائف يتآكلها الخوف، وأقلية نخبوية تلتهي بعبارات فيسبوكية، وبضعة أشخاص يتحكمون بمصير الإنسان في لبنان، لتُدفن فكرة "الثورة" في مهدها، علماً أن الاتكال على الرحمة غير مفيد، فالرحمة هجرت طريقها من لبنان، بمجرّد سقوط العدالة فيه.