لبنان: التطبيع الرسمي مع النظام السوري يدخل حيز التنفيذ

20 فبراير 2019
موقف بو صعب(يسار الصورة) يتماهى مع النظام السوري(حسين بيضون)
+ الخط -
انطلقت الحكومة اللبنانية الجديدة التي سمّت نفسها "حكومة العمل"، بعد نيلها الثقة النيابية، إلى العمل فعلاً، لكن تحديداً لتطبيع العلاقات مع النظام السوري بشكل رسمي. وضعت هذه الحكومة الهموم الاقتصادية على سلّم الأولويات، فيما تحوّل الشق السياسي إلى واقع موازين القوى في المنطقة الذي سلّم به كثر في الداخل اللبناني، وعلى رأسهم رئيس الحكومة سعد الحريري. سريعاً، تبيّن أنّ ما جاء في البيان الوزاري كالعادة، لا يعني التزاماً، بل لزوم الأدبيات السياسية وحماية لبنان سياسياً أمام الخارج، تماماً مثل إيراد تعبير "النأي بالنفس عن أزمات المنطقة"، الذي لم يُلزم الحكومات السابقة التي وجدت نفسها عاجزة عن تطبيقه أو فرض تطبيقه على "حزب الله". سريعاً أيضاً، تبيّن أنّ بند إعادة العلاقات بين لبنان وسورية، وإن لم يدرج في البيان الوزاري، بدأ يسلك طريقه بوضوح نحو التطبيق، وكأنه بند سرّي في البيان، مستنداً إلى معادلة باتت واضحة أبصرت الحكومة النور وفقها، وتسند الاقتصاد إلى الحريري بالتحالف مع "التيار الوطني الحر"، مقابل التنازل عن الشق السياسي. وهو ما يشبه ما كان حاصلاً في مرحلة الوصاية السورية على لبنان، والمعادلة بين رئيس الحكومة الأسبق رفيق الحريري والنظام السوري آنذاك.
وفق المعلومات، فإنّ الصفقة أنجزت عملياً في الصيف الماضي، غداة إعادة فتح معبر نصيب الحدودي بين سورية والأردن، وما رافقه من ضغط على الحريري لدفعه للمشاركة في افتتاح المعبر وزيارة سورية، تحت شعار "مصلحة لبنان"، لكنه قال يومها: "بهذه الشروط، ابحثوا عن غيري رئيساً للحكومة". لا يريد الحريري الحرج، وخصوصاً شعبياً، إذ إنه يدرك أنّ الجو الشعبي في الطائفة السنية التي يمثلها، لن يقبل إطلاقاً انفتاحاً على حكام دمشق. لكنه، في المقابل، استسلم لموازين القوى الإقليمية "لتمرير الوقت ومحاولة إنقاذ البلد اقتصادياً، ريثما تتضح الصورة الإقليمية والدولية"، مثلما يلمح هو وفريق عمله.

وفق هذه الرؤية، بات الحريري يميل إلى التسليم بما يحصل، وإلى الاعتراف ضمناً بأن عودة العلاقات اللبنانية – السورية مسألة وقت، ومرتبطة أساساً بالصراع الدولي والإقليمي، وهو ملف أكبر من لبنان وما يريده، وأن اللحظة الإقليمية والدولية، متى حانت، يصبح الموقف اللبناني تفصيلاً فيها. بناءً عليه، تضمّنت "الصفقة" أن يُسند ملف العلاقات مع سورية إلى رئيس الجمهورية ميشال عون وتياره السياسي (التيار الوطني الحر)، مع العلم أنّ الحريري يرتبط بعلاقات قوية مع هذا التيار ورئيسه وزير الخارجية جبران باسيل. ولهذا، لا يبدو موقف الحريري مجرّد براغماتية سياسية يُراد منها تقطيع الوقت و"حماية لبنان"، والعمل على إنقاذه اقتصادياً، بل يتعدى ذلك إلى محاولة تسجيل موقف ضمني يسمح له، وفق ما تقوله مصادر "العربي الجديد"، بالدخول شريكاً ضمنياً، إن لم يكن مباشراً، في المرحلة اللاحقة المتعلقة بإعادة إعمار سورية، وسط حديث متصاعد في الداخل اللبناني عن شراكة بين الحريري وباسيل في هذا الإطار.
وإن كان الحريري يرفض إطلاقاً لغايات تكتيكية – سياسية، تحمّل كلفة الانفتاح على النظام السوري، إلا أنّه في المقابل قدّم ويقدّم نفسه شريكاً أساسياً في الانفتاح على روسيا، وما تريده في سورية، وخصوصاً خطتها لإعادة اللاجئين (تطلق عليهم الدولة اللبنانية صفة نازحين) التي كرّر مراراً تأييد لبنان لها، على اعتبار أنّ الدخول إلى سورية يكون أقوى من البوابة الروسية التي تسيطر اليوم فعلياً على جارة لبنان.

لهذا، يبدو مفهوماً صمت الحريري عن بعض الممارسات الحكومية التي ينتهجها "التيار الوطني الحر"، وآخرها زيارة وزير الدولة لشؤون النازحين صالح الغريب إلى دمشق، تلبيةً لدعوة رسمية من وزير الإدارة ‏المحلية والبيئة في حكومة النظام السوري حسين مخلوف، "للبحث في ملف النازحين السوريين في لبنان". فقد حصلت الزيارة وظلّ الحريري عند صمته، وهو الذي تؤكّد مصادر حكومية أنه كان على علم مسبق بها، على الرغم من أنّ مصادره حاولت التقليل من أهميتها ووضعها في خانة "الزيارة الشكلية". إلا أنّ الحدث، وصمت الحريري، يعنيان أيضاً تجاوزاً لمجلس الوزراء ولرئاسة الحكومة، خصوصاً أنّ الأخير انتقد مراراً في الحكومة السابقة زيارة بعض الوزراء إلى دمشق، وعدم أخذ الإذن من رئاسة الحكومة، مثلما تقتضيه الأصول في العمل الوزاري.

وبعيداً عن الشكليات، تؤكّد مصادر حكومية لـ"العربي الجديد"، أنّ قنوات الاتصال بين سورية ولبنان عبر "التيار الوطني الحر" مفتوحة بالكامل، وأنّ وزير الخارجية جبران باسيل على تنسيق مباشر مع الحريري، ويتفهم طبعاً موقف الأخير، ولا يريد إحراجه، وأن أي ردّ من الحريري على زيارة الغريب لن تؤدي إلى أزمة بينهما، لأنه سيكون منسقاً ومضبوطاً، وتحت شعار تسجيل الموقف، حمايةً للحريري ولرصيده الشعبي، على الرغم من أنّ المصادر لا تتوقع رداً من الحريري، باستثناء تسجيل موقف لفظي خلال جلسة مجلس الوزراء المرتقبة، نتيجة إعلان "القوات اللبنانية" أنها ستطرح الموضوع بوصفه خرقاً لسياسة النأي بالنفس.

لكنّ الحديث عن مصالح لبنانية في الانفتاح على سورية، يناقضه الموقف اللافت الآخر لوزير الدفاع الياس بو صعب (المحسوب على التيار الوطني الحر) في مؤتمر ميونخ للأمن، قبل أيام، والذي ‏انتقد فيه سعي تركيا إلى إقامة منطقة آمنة على حدودها مع سورية، متماهياً مع موقف النظام في دمشق في هذا الشأن. ولعل هذا الموقف قد يعتبر أخطر من زيارة الغريب إلى الشام لأنه يعني تنسيقاً واضحاً وتقاطعاً بين النظام السوري و"التيار الوطني الحر" في شأن لا علاقة للبنان به لا من قريب ولا من بعيد، لا سيما أنّ خطاب رئيس النظام السوري بشار الأسد الأخير ضدّ تركيا، دلّ على محاولة سورية التصويب على الأخيرة، خصوصاً في مرحلة ما بعد اتفاق "سوتشي" وما شهدته، والتنسيق الإيراني – الروسي – التركي.

وعلى عكس زيارة الغريب وملف عودة العلاقات بين لبنان وسورية، يبدو الحريري بعيداً عن جو تصريحات بو صعب، وهو سيبلغ، وفق المعلومات، حليفه باسيل، بتحفظه على هذا التصريح وما تضمنه، خصوصاً أنه يضرّ بعلاقات لبنان الدولية والإقليمية، لا سيما مع تركيا، إضافة إلى اعتراضه على تسليف النظام السوري مواقف تخدم وضعيته المهزوزة إقليمياً.

وفي انتظار جلسة الحكومة المرتقبة يوم غد الخميس وما سيتخللها، بدا أن الغريب استبق هذا النقاش عندما أكد لقناة "المنار" الناطقة باسم "حزب الله"، أنّ "هناك تنسيقاً مع رئيس الحكومة ومع رئيس ‏الجمهورية بخصوص الزيارة وأنها لم تكن سرية"، رامياً بالتالي الكرة في ملعب الحريري، وواضعاً إياه في خانة ضرورة الردّ، فيما تلا هذا الموقف تصريح آخر لبو صعب قال فيه إن "الأسد هو رئيس سورية ولا خيار إلا التحاور معه ‏ونحن على اتصال مع سورية". وعلى الرغم مما تضمنته زيارة الغريب من رسائل، إضافة إلى مواقف بو صعب ضدّ تركيا خدمة لنظام الأسد، إلا أنّ الأنظار تتجه إلى إمكانية زيارة باسيل شخصياً إلى سورية، خصوصاً أنه التقى أخيراً الأمين العام للمجلس الأعلى اللبناني - السوري نصري خوري، وإن كان اللقاء مرتبطاً بتحقيق تقدّم في ملف اللاجئين الذي يعمل على خطه المدير العام للأمن العام اللواء عباس إبراهيم، بتكليف من عون شخصياً.
المساهمون