رُحّلَ قانون العفو العام، مرّة جديدة، إلى أجلٍ غير مُسمَّى، بعد رفع رئيس البرلمان اللبناني نبيه بري، الجلسة التشريعية العامة التي عقدت يوم الخميس في قصر "الأونيسكو"، بسبب التناقضات المتصلة بمواقف القوى السياسية تجاه البنود التي يشملها الاقتراح، ومحاولة كلّ حزب تحقيق مكاسب سياسية وشعبية، وفاقم هذه الخلافات انسحاب "كتلة المستقبل" النيابية، التي يرأسها سعد الحريري، من الجلسة المسائية، بحجة "أنّ هناك من يريد إعادتنا إلى نقطة الصفر".
وعقد البرلمان جلسة عامة بدأت صباحاً واستمرّت ساعاتٍ قبل رفعها لبعض الوقت واستئنافها مساءً لدرس مشاريع واقتراحات القوانين المدرجة على جدول الأعمال وإقرارها، وأبرزها اقتراح قانون العفو العام الذي أسقط المجلس عنه صفة العجلة، في 21 إبريل/نيسان الماضي، وأحاله على لجنة الإدارة والعدل النيابية لدراسته، بعد تسجيل اعتراض نواب "حزب القوات اللبنانية"، الذي يترأسه سمير جعجع، و"التيار الوطني الحرّ" و"حزب الكتائب اللبنانية" برئاسة النائب سامي الجميل، وبعض النواب المستقلّين، على الاقتراحين المقدمين من جانب كتلتي "التنمية والتحرير" التي يرأسها نبيه بري، و"المستقبل" النيابية، بعدما تمّ دمج الاقتراحين معاً.
ويأتي الاعتراض على بنود كثيرة، أبرزها البند الثامن المتعلق بعودة المبعدين الى إسرائيل، والبند التاسع الذي يلحظ أن السنة السجنية تخفّض إلى 6 أشهر، كما يُخفّض الشهر إلى أسبوعين، أي أن الذين لم يشملهم القانون سيطبق عليهم بند المدة السجنية، ومن بينهم من ارتكب جرائم ضد الجيش، ومن اغتصب وقتل؛ كلهم سيستفيدون بالقدر نفسه من هذا البند.
وقال الحريري لدى مغادرته الجلسة: "كالعادة نعمل بكل حسن نية لنصل الى قانون عفو عام يشمل أكبر عددٍ من الناس بغض النظر عن بعض التحفظات التي أبدتها بعض الكتل النيابية، ورئيس مجلس النواب بذل جهداً كبيراً للسير بين التناقضات ولكن هناك محاولة تذاكٍ من البعض".
وصرّح الحريري قبل استئناف الجلسة بأنّ "البعض يحاول تصوير موضوع العفو العام على أننا نريد إطلاق مجرمين من السجن، وهذا الأمر غير صحيح، وسنتابع القانون حتى النهاية"، مستغرباً اعتراض عدد من الأفرقاء السياسيين عليه، في حين كانوا من داعميه سابقاً. ولدى سؤاله من يقصد بقوله هذا، قال الحريري "جبران باسيل واحدٌ منهم". ومن المتوقع أن يضاف ما حصل اليوم إلى المعارك القائمة بين "الحليفين السابقين"، أي باسيل والحريري، والتي لا شكّ أنها ستشهد ارتفاعاً في مستوى الهجوم المتبادل في الأيام المقبلة.
وحاول الرئيس نبيه بري تقريب وجهات النظر للوصول الى صيغة مشتركة تساعد في حلّ الخلافات والتباينات، إذ رفع الجلسة المسائية لمدة عشر دقائق لمزيد من المشاورات، وعقد اجتماعات منفصلة مع رؤساء الكتل النيابية، خصوصاً أنّ غياب الاتفاق اليوم يستدعي الدعوة في وقتٍ لاحقٍ الى جلسة استثنائية مع انتهاء عقد مجلس النواب العادي أواخر شهر مايو/أيار الجاري، لكن محاولاته باءت بالفشل، والتي كان سبقها تهديد رئيس "التيار الوطني الحر"، وصهر رئيس الجمهورية، جبران باسيل، بمغادرة الجلسة، إذ شدد على أنّ "موضوع قانون العفو العام أكثر من خلافي ولدينا موقف مبدئي ضدّ فكرة العفو، وهذا القانون كما هو سنصوّت ضدّه كتكتل نيابي، لكننا نحاول أن نتفادى إشكالاً، وإذا ممنوع كمان نصوت ضدّ منفلّ". فأتى رد بري بالقول، "الكلمة الأخيرة (أي منفلّ) ما بدّي اسمعها".
وكان باسيل غرّد صباحاً، مع بدء الجلسة التشريعية، على حسابه عبر "تويتر": "العفو عن أصغر جنحة تسبب ضرراً معنوياً فقط هو تشجيعٌ لمزيدٍ من فلتان الأخلاق والآداب، كيف إذا كان المطروح أيضاً تخفيض عقوبة الذين قتلوا عسكرنا؟"، مشدداً على أن "الزمن هو لتشديد العقوبات، وخصوصاً بالفساد، وليس للتهرب من إقرار قوانين مكافحته مثلما يحدث اليوم. العفو هو إفلات من العقاب وهو جريمة جديدة بحق الوطن".
وفي مستهلّ الجلسة المسائية التي خصصت لمناقشة قانون العفو العام، قال بري: "ما حدا بقول آه ولا حدا يعنّ، وحدة هذا البلد أكثر ما تتجسّد في هذه القاعة وهناك آلاف المخارج، وكل اللبنانيين قاتلوا إسرائيل وانتصرنا وبموضوع من هذا النوع لن نخسر". واقترح التصويت على اقتراح العفو "بمادة وحيدة لتلقين درسٍ لكلّ الناس بأننا قادرون على اتخاذ موقف". علماً أنّه بالتزامن مع جلسة اليوم، توجهت مسيرة من جسر الرينغ في بيروت إلى قصر "الأونيسكو" رفضاً لإقرار قانون العفو العام، بينما نظّم تحرك أمام منزل النائب جبران باسيل، وسط تدابير أمنية مشددة، وأخرى أمام منزل النائب بيار بو عاصي (ينتمي إلى القوات اللبنانية)، وشهدت بعض المناطق اللبنانية قطعاً للطرقات احتجاجاً على تردي الأوضاع المعيشية والاقتصادية والمالية.
وقال النائب علي حسن خليل، الذي ينتمي إلى "حركة أمل" (يرأسها بري) بعد انتهاء الجلسة: "كنا نتمنى لو انتهت الجلسة بغير ما انتهت إليه، ورئيس مجلس النواب كان حريصاً على كلّ المكونات المشاركة، لذلك فقد رفعت الجلسة بسبب انسحاب مكون أساسي منها".
وأشار في تغريدة سابقة له على حسابه عبر "تويتر" إلى أنّ موقف "حركة أمل هو رفض العفو عن العدو الإسرائيلي، والذين ارتكبوا المجازر بحق لبنان واللبنانيين، وسنصوت ضده".
ويقول مصدر في "حزب الله"، لـ"العربي الجديد"، إنّ "هذا الملف فيه ناحية عاطفية لناحية الأولاد والعائلات وقد تكون قابلة للنقاش، غير أن مشكلة الحزب مع العمالة هي مبدئية، فمن اقترف جرم العمالة، وشارك مع جيش العدو في المجازر التي ارتكبها جنوباً، لا يمكن أن نعفو عنه، ومن يعتبر نفسه بريئاً فليحاكم، ومن يُتهم سينال العقاب عن جريمة خيانة الوطن".
ويؤكد مصدرٌ في "الحزب التقدمي الاشتراكي"، الذي يرأسه النائب السابق وليد جنبلاط، لـ"العربي الجديد"، أنّ "العفو العام ضرورة وطنية واجتماعية وصحية، ولا سيما لتخفيف مسألة الاكتظاظ التي تشكل خطراً على حياة السجناء في ظلّ فيروس كورونا، ولكن الحزب يفضل الاتفاق حول صيغة توافقية ترضي الجميع للسير بهذا القانون".
أما النائب شامل روكز، وهو أيضًا صهر رئيس الجمهورية، وعلى خلاف مع باسيل، فشدد في تغريدة على حسابه عبر "تويتر" على أن "اسقاط العفو العام كان تحية إجلال لأرواح الشهداء، وتحية وفاء لكل جندي مصاب، وتحية احترام لكل عائلة شهيد".
وشهدت الجلسة أيضاً انسحاب النائب فيصل كرامي، الذي علّل خطوته بالخلوات التي حصلت، وتجاهل باقي النواب والأفرقاء السياسيين.
من جهته، قال النائب حسين الحاج حسن (حزب الله): "لا نريد أن نحمّل أحداً مسؤولية عدم إقرار اقتراح قانون العفو العام، فلكل من الأفرقاء موقف، ولم يتم التوصل إلى اتفاق بين الجميع".
في المقابل، شهدت بلدة بريتال البقاعية قطعاً للطريق الدولية اعتراضاً على عدم إقرار قانون العفو العام، قبل أن يعيد الجيش اللبناني فتحها.
وانتشر خلال اليومين الماضيين، وقبيل جلسة مجلس النواب، وسم "حقن رصاصة"، بالتزامن مع إعادة طرح ملف "عودة اللبنانيين المبعدين الى إسرائيل" على السّاحة الداخلية، وذلك في إشارة من مناصري "حزب الله" الى أن أي عميل يأتي إلى لبنان سيكون مصيره "رصاص".
في سياق آخر، سقطت صفة المعجل عن مشروع "الكابيتال كونترول" وأحيل على اللجان المشتركة، فيما تم إقرار تعديل على قانون حماية كاشفي الفساد بشكل يؤدي إلى تعزيز هذه الحماية. ومن أهم ما تمّ إقراره اليوم قانون رفع السرية المصرفية عن كلّ من يتعاطى الشأن العام.