لبنانيون تحت شمس رمضان
بيروت
عصام سحمراني
صحافي لبناني، سكرتير تحرير مساعد في الصحيفة الورقية لموقع "العربي الجديد".
يتزامن شهر رمضان هذا العام في لبنان مع بداية الطقس الحار، وهو ما يجعل حياة كثير من الصائمين أصعب في جهاد الحاجة إلى الماء خصوصاً. بعضهم يعمل تحت الشمس فلا مهرب له من العمل
الشمس عدوّ الصائمين الأول، ولبنان يعيش أياماً حارة في رمضان هذا العام. رمضان الذي يُفسَّر اسمه تفسيرات دينية عديدة لكنّ الأصل يعود دائماً إلى الرمضاء، أي شدة الحرّ. مع ذلك، يضطر كثير من الصائمين في لبنان إلى إمضاء رمضانهم تحت الشمس، مع ما في ذلك من زيادة في عطشهم وتعبهم، فللعمل والكدح اليومي أحكامه.
بعد أذان الفجر بقليل يبدأ أبو سامي في تجهيز عربته التي يجوب بها الأحياء المجاورة. الخضري الستيني اعتاد في السنوات الأخيرة بيع صنفين أو ثلاثة من الفواكه، لكنّه في رمضان يملأ سطحها بالحشائش والخضر الضرورية لصحن الفتوش. بعد تجهيزها يبدأ جولته الرمضانية باكراً عند السادسة والنصف، وتستمر حتى الثامنة والنصف عادة. هكذا لا تؤثّر فيه الشمس كثيراً، خصوصاً أنّه لا يذكر نهاراً رمضانياً واحداً لم يصمه. يبيع كلّ ما على العربة قبل الرجوع إلى المنزل غالباً. كانت جولته سابقاً تستمر أربع ساعات، وكان يضع على عربته بضائع أكثر بكثير، لكن، للعمر أحكامه، وكذلك حال منزله اليوم إذ لم يبق فيه من أبنائه الأربعة وبناته الثلاث أكثر من واحدة بالإضافة إلى زوجته. يقول: "الحمد لله أنّي قادر على الاستمرار من دون تعب".
على الطرقات كثير من المهن التي لا ينتبه أحد لأصحابها ومعاناتهم في نهار رمضان الطويل. من هؤلاء أحمد سلامة (32 عاماً) وهو سائق شاحنة نقل أثاث وبضائع. يجلس طوال النهار داخل شاحنته في الضاحية الجنوبية لبيروت بانتظار زبون. الموقف تحت الشمس، والسير على الطريق يختلط فيه الحرّ بالأعصاب التالفة للصائمين. يشير إلى أنّه يتعب كثيراً لكنّ الأكثر تعباً هم عمال التحميل الذين لا يتمكنون من الصوم بسبب حاجتهم الدائمة إلى الماء عدا عن تدخينهم طوال وقت الانتظار.
اقــرأ أيضاً
التدخين يعتبره موظف الأمن أحمد حمزة مصدر عذابه الوحيد في رمضان. هو يمضي تسع ساعات في دوامه أمام أحد الفنادق المعروفة في منطقة رأس بيروت، أربع منها تحت الشمس مباشرة. لكنّه لا يبالي بالأكل والشرب بل بالتدخين الذي يشعر نفسه ضائعاً تماماً من دونه: "أفطر على سيجارة قبل أن أضع في فمي أيّ لقمة".
"لم يتذكر مسؤولو البلدية العمل إلّا في رمضان" يقول الأربعيني أبو كريم وهو يجلس فوق كومة حصى ملأ بها صندوق عربة "التوك توك" التابعة لإحدى البلديات القريبة من بيروت. يدور الرجل مع السائق في أحياء المنطقة بحثاً عن حفر في الطرقات، فيبادر إلى سدّها بشكل بدائي، على أن تسدّ بالأسفلت في يوم... قد لا يأتي. يقول إنّه يعمل خمس ساعات تقريباً، ويقتله العطش لكن "لا بدّ من الصيام والعمل معاً... عسى أن يكون أجرنا مضاعفاً" ثم يضحك ضحكة عالية.
الأجر المضاعف ذاك يفسّره أنور حسن (21 عاماً) تفسيراً دينياً إذ يعمل الشاب الجامعي مع إحدى الجمعيات الدينية في تحصيل الزكاة. يجلس طوال النهار في كوخ صغير في الشارع تحت الشمس، وفي ظلّ ملل كبير إذ لا يأتي إليه كثيرون، خصوصاً في النصف الأول من رمضان، بل يتحمل أيضاً سخرية وتحرش مراهقين وشبان يمرّون أمامه بدراجاتهم النارية الصغيرة ويطلقون النكات والألقاب. لا يطمع كثيراً بالأجر المالي فهو قليل لكنّه يساهم في تيسير أموره، أما طمعه الأكبر فهو في أجر ديني يكتب في ميزان حسنات الشهر الكريم.
سائقو التاكسي أو "الشوفيرية" هم الأكثر تذمراً برمضان أو من دونه. لكنّهم في رمضان يصلون إلى أعلى مستوى لهم، خصوصاً في لحظات الازدحام. الطريق من شارع كاراكاس إلى شارع بلس في رأس بيروت ليست طويلة، لكنّ الازدحام في أجواء حارة يصدّع الرأس وحده، فما بالك بسائق يطلق العنان لكلّ ما فيه من حنق تجاه الطرقات والسيارات والجيبة "الفارغة" وصولاً إلى الصيام نفسه قبل أن يقول: "أستغفر الله العظيم اللهم إنّي صائم"، لكنّه ينسى ذلك في لحظة ويعيد اللعنات والشتائم. يقول أبو علي إنّه أخطأ إذ خرج في ساعات الظهيرة، خصوصاً أنّ المدارس لم تقفل أبوابها بعد، لكنّه يعود ويؤكد أنّ خروجه كان اضطرارياً: "عندما أستيقظ لا أستطيع العمل في رمضان من ألم الرأس، وبعد الإفطار لا أقدر على حمل نفسي حتى".اقــرأ أيضاً
الطرف النقيض للسائق عادة هو شرطي السير، لكنّ الأخير يعاني أكثر. على تقاطع رئيسي في بيروت يقف الدركي أيمن، بسنواته التي لا تصل إلى العشرين. يبدو مرهقاً بالكامل، خصوصاً مع تعرقه ووجهه العابق يتغير لونه. لا يقول الكثير، لكنّه يؤكد أنّه صابر على ما هو فيه. خدمة أيمن على شارة السير ثماني ساعات يومياً، في يوم قبل الظهر وفي التالي بعد الظهر، وهكذا يمضي أيامه في رمضان وفي غيره، بانتظار راتبه آخر الشهر الذي لا يتجاوز 730 دولاراً أميركياً.
بعيداً عن الطرقات، تعيش مايا (21 عاماً) هاجس التخرج من جامعتها. تقول إنّ "الدرس في رمضان أسوأ من الشمس". امتحانات نهاية العام اقتربت لكنّها لا تتمكن من التركيز كما يجب: "أكتفي بساعتين من الدرس صباحاً وساعتين قبل الإفطار. مع ذلك فالاستيعاب ليس كاملاً، والمواد حجمها كبير جداً". تنتظر مايا تلك الامتحانات التي تقع في قلب رمضان، وتنوي التوقف عن الصيام خلالها على الأقل: "إذا تخرجت سأقضي ما عليّ، بل سأصوم أسبوعاً كاملاً إيفاء لنذر النجاح".
اقــرأ أيضاً
الشمس عدوّ الصائمين الأول، ولبنان يعيش أياماً حارة في رمضان هذا العام. رمضان الذي يُفسَّر اسمه تفسيرات دينية عديدة لكنّ الأصل يعود دائماً إلى الرمضاء، أي شدة الحرّ. مع ذلك، يضطر كثير من الصائمين في لبنان إلى إمضاء رمضانهم تحت الشمس، مع ما في ذلك من زيادة في عطشهم وتعبهم، فللعمل والكدح اليومي أحكامه.
بعد أذان الفجر بقليل يبدأ أبو سامي في تجهيز عربته التي يجوب بها الأحياء المجاورة. الخضري الستيني اعتاد في السنوات الأخيرة بيع صنفين أو ثلاثة من الفواكه، لكنّه في رمضان يملأ سطحها بالحشائش والخضر الضرورية لصحن الفتوش. بعد تجهيزها يبدأ جولته الرمضانية باكراً عند السادسة والنصف، وتستمر حتى الثامنة والنصف عادة. هكذا لا تؤثّر فيه الشمس كثيراً، خصوصاً أنّه لا يذكر نهاراً رمضانياً واحداً لم يصمه. يبيع كلّ ما على العربة قبل الرجوع إلى المنزل غالباً. كانت جولته سابقاً تستمر أربع ساعات، وكان يضع على عربته بضائع أكثر بكثير، لكن، للعمر أحكامه، وكذلك حال منزله اليوم إذ لم يبق فيه من أبنائه الأربعة وبناته الثلاث أكثر من واحدة بالإضافة إلى زوجته. يقول: "الحمد لله أنّي قادر على الاستمرار من دون تعب".
على الطرقات كثير من المهن التي لا ينتبه أحد لأصحابها ومعاناتهم في نهار رمضان الطويل. من هؤلاء أحمد سلامة (32 عاماً) وهو سائق شاحنة نقل أثاث وبضائع. يجلس طوال النهار داخل شاحنته في الضاحية الجنوبية لبيروت بانتظار زبون. الموقف تحت الشمس، والسير على الطريق يختلط فيه الحرّ بالأعصاب التالفة للصائمين. يشير إلى أنّه يتعب كثيراً لكنّ الأكثر تعباً هم عمال التحميل الذين لا يتمكنون من الصوم بسبب حاجتهم الدائمة إلى الماء عدا عن تدخينهم طوال وقت الانتظار.
التدخين يعتبره موظف الأمن أحمد حمزة مصدر عذابه الوحيد في رمضان. هو يمضي تسع ساعات في دوامه أمام أحد الفنادق المعروفة في منطقة رأس بيروت، أربع منها تحت الشمس مباشرة. لكنّه لا يبالي بالأكل والشرب بل بالتدخين الذي يشعر نفسه ضائعاً تماماً من دونه: "أفطر على سيجارة قبل أن أضع في فمي أيّ لقمة".
"لم يتذكر مسؤولو البلدية العمل إلّا في رمضان" يقول الأربعيني أبو كريم وهو يجلس فوق كومة حصى ملأ بها صندوق عربة "التوك توك" التابعة لإحدى البلديات القريبة من بيروت. يدور الرجل مع السائق في أحياء المنطقة بحثاً عن حفر في الطرقات، فيبادر إلى سدّها بشكل بدائي، على أن تسدّ بالأسفلت في يوم... قد لا يأتي. يقول إنّه يعمل خمس ساعات تقريباً، ويقتله العطش لكن "لا بدّ من الصيام والعمل معاً... عسى أن يكون أجرنا مضاعفاً" ثم يضحك ضحكة عالية.
الأجر المضاعف ذاك يفسّره أنور حسن (21 عاماً) تفسيراً دينياً إذ يعمل الشاب الجامعي مع إحدى الجمعيات الدينية في تحصيل الزكاة. يجلس طوال النهار في كوخ صغير في الشارع تحت الشمس، وفي ظلّ ملل كبير إذ لا يأتي إليه كثيرون، خصوصاً في النصف الأول من رمضان، بل يتحمل أيضاً سخرية وتحرش مراهقين وشبان يمرّون أمامه بدراجاتهم النارية الصغيرة ويطلقون النكات والألقاب. لا يطمع كثيراً بالأجر المالي فهو قليل لكنّه يساهم في تيسير أموره، أما طمعه الأكبر فهو في أجر ديني يكتب في ميزان حسنات الشهر الكريم.
سائقو التاكسي أو "الشوفيرية" هم الأكثر تذمراً برمضان أو من دونه. لكنّهم في رمضان يصلون إلى أعلى مستوى لهم، خصوصاً في لحظات الازدحام. الطريق من شارع كاراكاس إلى شارع بلس في رأس بيروت ليست طويلة، لكنّ الازدحام في أجواء حارة يصدّع الرأس وحده، فما بالك بسائق يطلق العنان لكلّ ما فيه من حنق تجاه الطرقات والسيارات والجيبة "الفارغة" وصولاً إلى الصيام نفسه قبل أن يقول: "أستغفر الله العظيم اللهم إنّي صائم"، لكنّه ينسى ذلك في لحظة ويعيد اللعنات والشتائم. يقول أبو علي إنّه أخطأ إذ خرج في ساعات الظهيرة، خصوصاً أنّ المدارس لم تقفل أبوابها بعد، لكنّه يعود ويؤكد أنّ خروجه كان اضطرارياً: "عندما أستيقظ لا أستطيع العمل في رمضان من ألم الرأس، وبعد الإفطار لا أقدر على حمل نفسي حتى".
الطرف النقيض للسائق عادة هو شرطي السير، لكنّ الأخير يعاني أكثر. على تقاطع رئيسي في بيروت يقف الدركي أيمن، بسنواته التي لا تصل إلى العشرين. يبدو مرهقاً بالكامل، خصوصاً مع تعرقه ووجهه العابق يتغير لونه. لا يقول الكثير، لكنّه يؤكد أنّه صابر على ما هو فيه. خدمة أيمن على شارة السير ثماني ساعات يومياً، في يوم قبل الظهر وفي التالي بعد الظهر، وهكذا يمضي أيامه في رمضان وفي غيره، بانتظار راتبه آخر الشهر الذي لا يتجاوز 730 دولاراً أميركياً.
بعيداً عن الطرقات، تعيش مايا (21 عاماً) هاجس التخرج من جامعتها. تقول إنّ "الدرس في رمضان أسوأ من الشمس". امتحانات نهاية العام اقتربت لكنّها لا تتمكن من التركيز كما يجب: "أكتفي بساعتين من الدرس صباحاً وساعتين قبل الإفطار. مع ذلك فالاستيعاب ليس كاملاً، والمواد حجمها كبير جداً". تنتظر مايا تلك الامتحانات التي تقع في قلب رمضان، وتنوي التوقف عن الصيام خلالها على الأقل: "إذا تخرجت سأقضي ما عليّ، بل سأصوم أسبوعاً كاملاً إيفاء لنذر النجاح".