فشلت النخبة السياسية في تونس في عقد مُؤتمر وطني لمقاومة الإرهاب، رغم تتالي الدّعوات لعقده من مُختلف التيارات والأحزاب، ورغم الاتفاق على أن هذا الملف يُعدّ من أبرز الملفات على الإطلاق. وبالرّجوع إلى الأسباب التي أدّت لهذا الفشل رغم الانطلاق في الأشغال التحضيرية التي لم يُكتب لها التواصل، نجد أنّها تتعلّق أساسًا بالحسابات السياسية والأجندات الحزبية.
غير بعيد عن ساحة المُعترك الحزبي، برزت على السّاحة جمعيات ومراصد ومراكز دراسات مُختصّة في المسألة الأمنية ومُقاومة الإرهاب. وبمُتابعة أنشطتها المُتنوّعة، لا يصعُب استنتاج محدوديّة أثرها بالنّظر إلى طبيعة بعضها النّخبويّة التي ظلّت حبيسة الصالات الفاخرة والنّزل الراقية، وبالنّظر لاندراج بعضها الآخر في حسابات السياسة وإن كان الغطاء مدنيًّا.
وبين فشل ومحدوديّة، طفت على السّطح بعض التّجارب الشبابية الجديرة بالاهتمام؛ تجارب على قلّة عددها تجرّأت على كسر حواجز طالما استفاد من وجودها مُحترفو الدّمغجة وأرباب التّجنيد لفائدة التّيارات المُتشدّدة. واستنادًا لأحدث الدّراسات السوسيولوجية، أنّها تُحسن ملء الفراغ الذي تتركه الدّولة في الهامش الاجتماعية وتُنشأ ميكانيزمات احتواء يطمئن لها الشباب الذي يُعاني من "العطوبة الاجتماعية".
من أجل دفع الهامش نحو دائرة الضوء
مُؤسّسة الياسمين هي إحدى المُؤسّسات التي ركّزت جزءًا هامًا من مشاريعها على الولوج لمناطق الهامش والوصول لشباب الأحياء الفقيرة ودفعهم للمشاركة في أنشطتها التثقيفية والتحفيزية من خلال برامج داخل هذه الأحياء وبتنشيط شباب من داخلها.
"منتدى الشباب والدستور" هو أحد هذه البرامج، وهو برنامج توعوي مُوجّه لفائدة مجموعة من الشابات والشبان، بلغ عددهم 90، من أبناء منطقتي التضامن المنيهلة (أحياء كبرى بتونس الكبرى)، من غير المنخرطين في الحياة الاجتماعية والسياسية وغير المهتمين بالشأن العام.
يحتوي هذا البرنامج على سلسلة من الأنشطة المتنوعة والمبتكرة تتتالى وتتكامل على مدى ستة أشهر وفق مقاربة تفاعلية عبر خلق فضاءات للنقاش الحرّ ومنابر للتعبير عن الرأي، إضافة إلى عديد من الدورات التدريبية المُعتمدة بيداغوجيًا على طرق المحاكاة وتبادل الأدوار كتجسيد مساءلة أعضاء الحكومة وتجسيد العملية الانتخابية، وذلك لتبسيط مفاهيم قد تبدو معقدة كطبيعة الدولة وتقسيم السلط والحقوق والحريات ومفهوم الديمقراطية والمواطنة.
يقول بلال مناعي، أحد الشباب الذين أشرفوا على هذا البرنامج، إن الهدف كان تقريب المفاهيم المُستجدّة في تونس ما بعد الثورة وما بعد دستور 2014 من الشباب، وتوفير الفرص ليتملكوا مهارات المواطنة الفعالة التي تمكن من تفعيل مبادئ الدستور.
ويُضيف في حديثه إلى "جيل العربي الجديد" أن اختيار هاتين المنطقتين كان بالأساس لاعتبار التّهميش المُتواصل قبل الثورة وبعدها رغم قربهما من العاصمة، إضافة إلى انتشار ظاهرتين خطيرتين؛ وهما ظاهرة الإجرام أو الانحراف من جهة، والتطرّف الديني من جهة أخرى، ما جعل مهمة الوصول إلى شرائحها المختلفة أمرًا عسيرًا للغاية، وفق تعبيره.
وتعمل المُؤسّسة في هذه الأيام أيضًا على مشروع آخر وهو "شباب فاعل"، ويهدف البرنامج إلى تأهيل قرابة 600 شاب وشابة من أبناء الأحياء الشعبية في مجال الحوكمة والمحلية، وتمكينهم من المهارات التقنية والتواصلية لتيسير مسألة تحفيز الناس في أحيائهم للمُشاركة في الانتخابات المحلية القادمة، وأيضًا فسح المجال أمامهم للمشاركة في الانتخابات البلدية القادمة.
"حومتنا فنانة": ثقافة الحياة في مواجهة ثقافة الموت
فضاء مسار هو فضاء ثقافي أُنشئ عام 2007 من قبل الفنان المسرحي التونسي الشاب صالح حمودة، وقد احتضن هذه السنة الدّورة الثالثة لمهرجان "حومتنا فنانة" (حيّنا فنان بالعامّية التونسية)، ويعد المهرجان التظاهرة الأهم لهذا الفضاء من حيث تنوع العروض واستقطاب جمهور من متساكني مختلف الأحياء الشعبية المحيطة به (باب الخضراء باب العسل، باب سعدون، الجبل الأحمر، العمران )، حيث يمثل فرصة لسكان الأحياء الشعبية غير القادرين على اقتناء تذاكر باهظة والتنقل لمواكبة عروض المهرجانات من التمتع بالسهر والسمر في "بطحاء الحي" بعروض فنية مختلفة ذات بصمة شبابية.
وبين الراب والمسرح والسينما والأغاني المُلتزمة، يُحاول المهرجان أن يمضي نحو الشباب في أحيائهم المُفقرة ليبث فيهم ثقافة الحياة وليقطع الطّريق أمام ثقافات الموت المُترصّدة بكل يائس غارق في الفراغ.
لا يتطرّف الشباب إلا متى غاب الشباب
ورغم ألمعيّة هذه النّماذج التي فقهت أن تحصين الشّباب من نوازع التّطرف يمُر عبر مُخاطبتهم بما يفهمون والتوجّه نحوهم ضمن مُحيطهم الذي فيه يسكُنون، إلا أنها تظلّ دون المأمول بكثير وتظل عاجزة عن تغطية مساحات الهامش الواسعة والمترامية في أطراف البلاد.
قد لا نُبالغ حينما نقول إن غياب الشّباب النّاشط والفاعل ميدانيًا - وليس في الغرف المُظلمة - في أرجاء مُجتمعاتنا هو الذي يُتيح لمُبرمجي العقول الانفراد بضحاياهم من الشباب الذين ينتهي بهم الأمر أشلاء في إحدى ساحات الوغى المغلوطة. الحل بيد الشباب أنفسهم وهم فقط القادرون على حماية أقرانهم متى أخذوا بأيديهم ودفعوهم نحو الاهتمام بالشأن العام وبعثوا فيهم ذلك الإحساس المفقود بالقيمة؛ فلا يتطرّف الشباب إلا متى غاب الشباب.
(تونس)