لا إرادة غير إرادتكم

24 ديسمبر 2016
+ الخط -
لأن الشعب هو الذي يدفع ثمناً فادحاً من دمائه لتصحيح أخطاء حمقى السياسة والسلاح، ولأنه لا يستشار في أيّ شأن من الشؤون التي تفضي إلى هلاك بناته وأبنائه، فرادى وجماعات، في حالاتٍ كثيرة على أيدي (أو بسبب) من يدّعون تمثيله والقتال دفاعاً عنه، يصير من غير الجائز أن يعلو أي صوت، بعد اليوم، على صوته، أو تسمو أية إرادة على إرادته. في المقابل، لا يحق للشعب مغادرة الشارع من الآن فصاعداً. وعقب كارثة حلب التي فضحت واقع المعارضة السياسية والمسلحة، وفضحت ما يشوبه من تشوهاتٍ بنيوية إن استمرت، غدا تجاهلها فوق طاقة السوريين، وحلت الهزيمة بالثورة، بعد أن أباد نظام الإجرام الأسدي وأعطب الملايين منهم، وأذاق الأحياء منهم شتى صنوف القتل والتجويع والحصار والتهجير والاعتقال والتعذيب، بينما لم يقصّر أمراء الحرب وتجارها في قمع ما يسمونها، نفاقاً وكذباً، "الحاضنة الشعبية" وقهرها وتجويعها وقتلها، وأكملوا سياسات الأسد وبطانته وجرائمهما، فمزقوا المجتمع وشتتوه، وأخضعوه لأنماط من الاستبداد المذهبي، لا تقل وحشيةً عن استبداد نظام الأسد الطائفي، مدّعي العلمانية، حتى ليصدق القول إن مذهبة ثورة الحرية نقل شعب سورية من "تحت الدلف إلى تحت المزراب"، حسب قول مثل شعبي، يصف تعاظم مآسي من يريد التخلص من مصيبة فيقع في مصيبة أشد وأدهى منها.
مرت الثورة في مرحلة أولى: مجتمعية/ شعبية، طالبت سلمياً بالحرية لشعب سورية الواحد. تلتها مرحلة ثانية: تعسكرت وتمذهبت وتطيفت فيها، رسم النظام ملامحها وساعده مذهبيون على تحقيقها بحجة الدفاع عن الدين والمسلمين. واليوم، وقد صارت علامات انهيار هذه المرحلة واضحةً للعيان، لا بد من استئناف مشروع الثورة الأصلي، بقواها المجتمعية الواسعة، ونخبها المدنية الحديثة، كي لا يكون فشل العسكرة والتمذهب فشلاً لها، ومن الضروري أن يستعيد الشعب الشارع، مثلما فعل بعد إعلان هدنة شهر فبراير/ شباط الماضي، إذ عمّت مظاهراته كل مكان، ورفع من جديد شعاره العظيم "الحرية للشعب السوري الواحد". سيرتبط مصير الثورة، من الآن، بنزول الشعب إلى الشوارع وأنشطته المتنوعة فيه، وبمبادرات شاباته وشبانه وحراكه اليومي داخل وطنه وخارجه. وأخيراً، بتحويل طرده المأساوي من وطنه إلى كارثة تحل بالأسدية، بإظهار حقيقة ثورته، وما تريده من حرية وكرامة إنسانية، ومن عدالةٍ لجميع مواطني سورية الذين ستضمن لهم حقوقاً قانونية ومتساوية، ومن سلمية تجافي الإرهاب وترفضه فكراً وممارسةً، وبالنتيجة من تغيير موقف العالم من نظام الإرهاب الأسدي الذي فتك بالملايين منهم، ودمر وطنهم: أحد أكثر بلدان التاريخ حضارة وثقافة، وشعبهم المنتج/ المبدع الذي أسهم في بناء واحدةٍ من أزهى حضارات البشر، ويبيده منذ أعوام رهط من المجرمين، يرفض أي حل سياسي سلمي للمأساة التي أنزلها به.
بعد حلب، لم يعد بالإمكان ترك الثورة لتنظيمات سياسية فشلت في قيادة الثورة، وعسكرية تبنى معظمها مشروعاً معادياً لمشروعها، لم يخدم أحداً غير النظام وبطانته المجرمة، لا يجوز بعد حلب السكوت عليها، وإلا سمح السوريون لها بسوقهم إلى الهزيمة، بعد ما قدّموه من تضحياتٍ تضيعها تنظيماتهم. لا بد أن يستعيد الشعب ثورته، وأن يدافع عنها بحراكه الكثيف، وأن تصحح نخبه المدنية مسارها، لتخلصها من الأخطاء القاتلة التي ترتكب باسمها، وفي مقدمها الجنون المذهبي، وإخضاع السياسة لسلاح جهلة ومنحرفين وطنياً وأخلاقياً.
بعد حلب، لن يكون لدى السوريات والسوريين من خيارٍ غير استئناف ثورة الحرية أو الهزيمة، فإن كان الخيار هو الثورة، وجب عليهم العمل بكامل قدراتهم، ولحظة بلحظة لطي صفحة التمذهب والتعسكر المتأسلم، وفتح صفحة الوطنية الجامعة التي ستضم قواها المتنوعة جميعها، التي ستشق لنا الطريق إلى قصدنا الوحيد: دمشق الحرة.
E4AA2ECF-ADA6-4461-AF81-5FD68ED274E9
ميشيل كيلو

كاتب سوري، مواليد 1940، ترأس مركز حريات للدفاع عن حرية الرأي والتعبير في سورية، تعرض للاعتقال مرات، ترجم كتباً في الفكر السياسي، عضو بارز في الائتلاف الوطني السوري المعارض.