لا أعياد مع وجود الجلاد

24 سبتمبر 2016
+ الخط -
في صغرنا كنّا نفرح بالعيد قبل أيام، وننتظره بفارغ الصبر، وفي الليلة التي تسبقه لا نكاد ننام من الفرح، ونضع الثوب الجديد جنبنا، ونستيقظ باكراً، لنرتديه ونخرج للعب مع الأطفال، إلى أن يعود المصلون، لتبدأ التهاني والتبريكات، وتذبح الأضاحي.
أيام جميلة حقاً، كانت نظرتنا محدودة وتقتصر على محيطنا، وبعد أن توالت السنوات، كبرنا وكبرت معنا تلك النظرة، انطلاقاً من أقرب المناظر التي تجسّد "الحياة"، بحلوها ومرّها، عرس بقرب مأتم في الزقاق نفسه، وكلّما توّسعت نظرتنا أكثر، نعرف أنّ الحياة ليست كلّها عسلاً، ولا كلّها حنظل، ليست فرحاً كما تخيّلناها، وتلك الابتسامة التي حظي بها بعضهم في الصغر، حرم منها آخرون كثيرون، بسبب الظلم المسلّط على أمتنا، داخلياً وخارجياً، من الحكام، ومن القوى العظمى التي تترّبص بحركاتنا وسكناتنا.
في الوقت الذي ينال فيه الطفل الأوروبي والأميركي ما يشاء، ويرتدي أحدهم بذلة، وهو يلعب في منزله بسيارة للأطفال يركبها، لا يحصل المضطهد في إفريقيا وآسيا على شيء، حتى أوراق الأشجار ليستر بها عورته، ولا حتى دابة يمتطيها، فلم يسلم من الجوع غير الجماد الصلب.
يموت الإنسان في الدول "العربية"، موتاً بطيئاً، جوعاً وبرداً وجهلاً، وقتلاً وسجناً... لا تسعني السطور لذكر الأسباب، فهي متعدّدة والمصير واحد، يحتكر الأغنياء كل شيء، المال، والجاه، ويستحوذون على الشجر والحجر، وكلّ الأراضي، حتى التي في ملكك، إن أرادوها حصلو عليها، بحكم القانون، أو بقضاء المحكمة، ويعاقب صاحبها الحقيقي.
كم هو مؤلم أن ترى دموعا في جانب، وأفراحاً في آخر، حتى ولو عبر التلفاز، قلوبنا واحدة، وأحزاننا واحدة، لا أستطيع النأي بالنفس، لا قدرة لي بالانشغال بنفسي من دون الاهتمام بالآخرين. لست من هواة الاستصناع ولا "الاستصباغ"، دموع في يوم العيد، تسقط في سورية، والعراق، ليبيا واليمن، بورما وفلسطين، تسطر العبارة التي جعلتها عنوانا لمقالتي.
في العيد، يحتفل المسلمون، بعضهم في منازلهم مع الأحباب، وآخرون تحت ركام ما تبّقى من البيت، رفقة ذكريات الماضي القريب، ورفقة دمى لفلذات أكباد سرقتهم براميل بشار، أو خطفتهم قذائف الحوثي، أو اغتالتهم رصاصات الحشد الشعبي، أو حرقتهم أيادي الصهاينة الغاصبة، من الناس من وجد أضحية، ومنهم من ذهب أهلهم كلهم ضحية، ومنهم من لا يقدر على مزيد من التضحية، ويبحث عن مكان يشرب فيه كأس شاي..من دون خوف.
وهناك من يحتفل بالعيد في السجن، وهذا حسن سلامة الأسير الفلسطيني المحكوم بـ 1175 سنة (48 مؤبد وثلاثين سنة)، أمضى منها 20 عاماً في السجن الانفرادي، يقول، في رسالته التي تدمي القلب، وهو يتساءل عن الأعياد، ويصف كيفية احتفاله بها: هل زاد عددها عندكم؟ كنت أتذكّر في ذلك الزمان عيدي الفطر والأضحى، فأنا منذ سنوات، على الرغم من وجودي في عالمي الخاص الذي يبعد كثيراً عن عالمكم، ويختلف عنه في كل شيء، أحتفل بنفسي في هذه الأعياد، وأستيقظ باكراً بعدما أصلّي الفجر، أجلس أمام باب قبري، وأبدأ بالتكبير، فلا أسمع إلا صدى صوتي يؤنس وحدتي، وبعد الصلاة ينتهي عيدي، وأعود لحياتي وأتناول حلويات أصنعها من الخبز والسكر.
وفي الرسالة نفسها، يسأل عن أشياء أخرى من العالم الخارجي، حرم من رؤيتها عشرين سنة، والمدة في ازدياد، ويقول عن الشمس: هل مازالت تشرق كل صباح، ولها غروب، وهل ما يزال الشفق أحمر وقت الأصيل، أتذكّر أنّي كنت أرقبها في الماضي البعيد وقت الغروب، وأقف أمام البحر وهي تختفي. وقتها، كنا نقول ابتلعها البحر، فهل ما يزال البحر قادرا على ابتلاع الشمس؟
معاناة تعجز عن حملها السطور، تلك التي يتخبّط فيها الإنسان في الدول العربية، شعوب قهرها الجهل والفقر والظلم. دعني من هذا، سنتجاوزه لنتساءل عن أفراح الأطفال، عن إيلان الكردي، ما حلّ بأهله؟ وما طعم الحياة بعده؟ أبكي حين لم يبك عمران الحلبي، ألا يزال حيّا؟ وماذا يفعل الآن؟ هل يحتفل بالعيد مثل سائر الأطفال، أم أنّ الابتسامة غابت عنه كما غابت الدموع، وهل من عيد للاجئين، هل فرحوا؟ هل ضحكوا؟ وهل بقي لهم أطفال أم أنّ الثرى قد واراهم؟
الظلم المسلّط على رقاب الناس، لا محال زائل. لكن، بالتضحية في سبيل ذلك، فلا انعتاق بالمجان، وطريق الحرية طويل، تملأه العقبات. صحيح أنّنا نحتفل بالعيد، لكن كيف؟ هنا تختلف الأمور، ولن تتوّحد الفرحة والسعادة، إلا بعد التخلّص من الطغاة والجلادين، في كل الدول "العربية"، وتحرير الأرض المغتصبة، التي أسر محتلوها آلافا من بني جلدتنا، هم كذلك يحتفلون بالعيد، لكن في ظروف أشبه ما تكون بعالم البرزخ.
B0CB5C84-828A-46C8-BC25-5C024AFBC08E
B0CB5C84-828A-46C8-BC25-5C024AFBC08E
شفيق عنوري (المغرب)
شفيق عنوري (المغرب)