يهتم [عبد الفتاح] كيليطو كثيراً بالقرّاء. لدرجة أن من الممكن تحديد أنماط كثيرة من القرّاء لديه. والبديع لديه أن هؤلاء القراء يكادون يكونون جميعيهم لاقراء! لا تبرز علاقة القراء لديه بفعل القراءة إلا أثناء ممارستهم ما يناقضه. بحيث كلما ظهر عنده قارئ إلا وظهرت فيه على الفور خصلة مضادة لـالقراءة، حتى أن بوسعنا أن نقدم جرداً تصنيفياً للاقرّاء كيليطو:
النائم: النوم أحد أكبر ألغاز الكتابة والقراءة، لغز يشغل بال كاتبنا، خصوصاً حين يربطه بأصل الحكاية "شهرزاد"، لا شيء في "الليالي" يشير إلى أن شهرزاد أو شهريار كانا ينامان، فهي كانت تعبُر به الزمن المخصّص للنوم، لتكسب يوماً آخر من حياتها. هكذا تكون الحكاية (ومعها الكتابة) مضادة للنوم. وعلى خلاف ذلك يربط أبطال كيليطو القراء علاقة وثيقة بالنوم، ما إن ينخرطوا في فعل القراءة حتى يأخذهم النوم، هكذا يطيل النوم فعل القراءة ويفتحه على آفاق أرحب، تماماً مثلما يطيل السهر أمد الكتابة!
المتقمص: التقمّص هو الصفة الملازمة لـرواد المكتبة. يسمحون لما يقرؤونه بأن ينطبع على جوارحهم الخارجية، وبالتالي هم يفصحون عما ينبغي أن يظل محصوراً في العالم الحميم للقراءة، يمنحون القراءة طابعاً برّانياً خارجياً يناقض طبيعتها المفترضة تمام المناقضة.
الناسخ: النّسخ منزلة بين القراءة والكتابة، كتابةٌ تقرأ أو قراءةٌ تكتب، هو أيضاً من هذه الناحية شكل من أشكال اللاقراءة. ونُسّاخ كيليطو تحديداً لا يحترفون النسخ مهنة، وإنما سبيلاً للقراءة. أمر فريد هو ذاك الذي يدفع قارئاً إلى أن يقرّر نسخ كتاب بأكمله، ثم الانتقال إلى نسخ غيره وغيره. يتعارض النسخ مع الطباعة من حيث إنه لا يقدم نسخاً متشابهة، وإنما في كل عملية نسخ تظهر نسخة لا تقل أصالة عن الأصل، إضافة إلى أن من ينسخ الكتاب يتبنّاه بمعنى ما، يصير نسخته الشخصية. دون أن نغفل الطابع السحري للنسخ، إذ لا نكاد نصادف البتة في أي حكاية من حكايات السحر شخصا يكتب تعويذة (بمعنى يؤلّفها)، وإنما دائماً يتم ترديد العزائم والتعاويذ المنقولة عن أصل يصعب تحديده، بمعنى أن من يكتب التعويذة هو بمعنى ما ينسخها. ومن هنا الطابع السحري لعملية النسخ التي يكون لها أثر خارجي، ومثل ذلك الطفل (كيليطو) الذي شُفي من مرضه بعدما قام بنسخ وصفة الدواء.
القارئ والمستمع: هي استعادة لحكاية يهودية قديمة (على النمط البورخيسي)، عن راهبين يهوديين سافرا لاجتياز امتحان يؤهلهما ليصيرا حَبْرَين. أحدهما كان موسوساً بالدراسة، والآخر يميل إلى اقتصاد جهده. قضيا ليلة الامتحان في فندق، وسهر الأول يعيد مراجعة دروسه بصوت عال، بينما رقد الثاني على صوت الأول. أثناء اجتياز المباراة تلا الأول كل ما حفظه، بينما أعاد الثاني ما انطبع في ذهنه من كلام صاحبه ليلة الامتحان. النتيجة؛ تم قبول الثاني لأنه بحسب زعم اللجنة، قدم قراءة أكثر أصالة. ما يعني أنه كلما كانت القراءة ناقصة، تمت بطرق ملتوية إلا وكانت أكثر أصالة وبالتالي أكثر قرباً من النص، وعلى خلاف ذلك من يقرأ النص قراءة حرفية يُمعن في البعد عنه!
* "مكتبة كيليطو"، مقطع من كتاب "مكتباتهم" (2017).