قطعت مسيرات العودة إلى الجذور والقرى المهجّرة، التي بدأها فلسطينيو الداخل قبل 17 عاماً تحت شعار "يوم استقلالهم يوم نكبتنا" الطريق على كل محاولات الأسرلة والدعوات إلى الاحتفال باستقلال إسرائيل، وثبتت الذاكرة الفلسطينية والرواية الفلسطينية عند أبناء الجيل الثالث للنكبة.
لكن مسيرات العودة تطورت في العقدين الأخيرين، ولم تعد مقصورة على مسيرة تقليدية، ولا على بضع مئات من أهالي القرى المهجرة دون غيرهم، إذ تطورت هذه المسيرات إلى نمط وفعل مقاومة وصمود لا يكتفي بمسيرة يوم في السنة، ولا يكتفي بتطبيق وصية الراحل من الأسرة بأن "ادفنوني في بلدي"، بل إلى إعادة إحياء القرى والحياة فيها، والتواصل معها، في المناسبات الدينية والأعياد، بل وحتى إقامة مناسبات اجتماعية وأفراح على أراضي القرية المهجرة.
أهالي قرية معلول القريبة من الناصرة يقيمون أفراحهم على أراضي القرية ويحتفلون بعيد الفصح فوق روابيها. وأهالي إقرث وكفر برعم الحدوديتين يخيّمون سنوياً في قريتهما. ويبيت بعض الشباب في القرية بنحو دائم وينطلقون منها إلى عملهم أو دراستهم ويصرّون على العودة إليها يومياً. فالمئات من أبناء كفر برعم، من الجيل الثالث للمهجّرين، والذين يطلقون على حركتهم اسم "العودة" أعلنوا عودتهم الى البلد، ويواجهون اليوم محاكمة بتهمة اجتياز الحدود.
مقاومة من نوع آخر
يؤكد ساهر جريس الذي يتحدر من قرية كفر برعم في الجليل الأعلى لـ"العربي الجديد" أنه أعلن عودته مع مئات من الشباب، إذ يقيمون وينامون في كنيسة كفر برعم منذ تسعة أشهر. وتنظم حركة "العودة" في كل عام "مخيم العودة الصيفي" للأطفال والشباب من أبناء كفر برعم.
لم يعجب هذا النوع من المقاومة المؤسسة الإسرائيلية فقامت قوات الشرطة بإصدار أمر الإخلاء لـ"شباب العودة" بعد شهر من مكوثهم هناك، الا أن الشباب استأنفوا الأمر في محكمة الصلح في مدينة صفد، وما زالت المداولات مستمرة.
وتعود بذور هذا الحراك الفلسطيني المميز إلى ردة فعل من المهجّرين واللاجئين في الوطن على ما اعتبروه تجريداً لفلسطينيتهم وهضماً لحقهم في "اتفاق أوسلو". فبدأ الحراك وعُقد أول مؤتمر في مدينة طمرة عام 1993 وقد دعت إليه مجموعة من المهجّرين احتجاجاً على "اتفاقية أوسلو". وشكل هذا المؤتمر رافعة لتأسيس "جمعية الدفاع عن حقوق المهجرين" التي جرى تسجيلها رسمياً خمسة أعوام بعد انطلاق المؤتمر الأول في مدينة طمرة.
انطلقت مسيرة النكبة وحق العودة الجماعية الأولى بدعوة من "جمعية الدفاع عن حقوق المهجرين" الى قرية الغابسية في الجليل وتم الاعتصام داخل مسجد القرية المهجرة. أما المسيرة الأخيرة فكانت قبل أسبوع الى قرية لوبيا بمشاركة 30 ألف عربي فلسطيني من الداخل.
يؤكد المهندس سليمان الفحماوي الناطق باسم "جمعية الدفاع عن حقوق المهجّرين" لـ"العربي الجديد" أنه "كان من المهم بمكان للجمعية أن تضع عند تسجيلها بنداً يخص العمل على عودة المهجّرين الى قراهم والعمل على ترميم وصيانة الأماكن المقدسة. وهذا البند أدى الى تأخير تسجيل الجمعية لدى مسجّل الجمعيات، وسجّلت بعدما توجهنا الى محكمة العدل العليا".
يتابع فحماوي: "قمنا بترميم وإعادة إحياء الصلاة في كنيسة قرية معلول في الجليل، إضافة الى تنظف مقابر لقرى مهجرة عديدة".
"تشهد الجذور"
في العام 2002 أطلقت مديرة "جمعية الثقافة العربية" الراحلة روضة بشارة عطا الله (التي دفنت هي الأخرى في مقبرة عائلة زوجها في قرية إقرث المهجرة) مشروع "الرحلات إلى الجذور" في إطار المساهمة في بلورة هوية ثقافية منفتحة على الواقع والتاريخ، والمساهمة في النقاش المستمر لمضمون "هويتنا الثقافية"، بما يتلاءم مع الانتماء القومي ومع الانفتاح على ثقافات الشعوب المختلفة، ومساعدة الشباب على التعرف إلى تاريخهم وحضارتهم، وتعزيز التواصل مع الفلسطينيين في الوطن والشتات.
وتميزت المبادرة بضمّ وتجنيد آلاف الشبان والكبار من خارج القرى المهجّرة ولاجئي الداخل لزيارة هذه القرى وتعلّم تاريخها وحكايات سقوطها واقتلاع أهلها وتهجيرهم منها.
وأصدرت الجمعية عام 2008 كتاباً بعنوان "تشهد الجذور"، بالعربية والإنكليزية، تضمّن معلومات عن القرى المهجّرة وخرائط تفصيلية عن المدن الفلسطينية.
وقال الأديب إياد برغوثي من "جمعية الثقافة العربية" لـ"العربي الجديد": "هذا المشروع مهمّ جداً لأنه جزء من برنامج معرفة الوطن. لقد قمنا في الأسبوع الماضي برحلة تاريخية الى مدينة عكا، وهناك رحلة تاريخية سياسية أخرى السبت المقبل لطلاب جامعات. وتهدف هذه الجولات الى التعويض عن الفجوة المعرفية وتعريفهم إلى المدن الفلسطينية. كما قمنا بإعداد كتيّب عن معالم عكا ووزعناه على المشاركين".
نهضة فلسطينية في يافا
لا تختلف الصورة في يافا، أرض البرتقال الحزين، بل إن تعقيدات المسألة أكثر، فهي المدينة التي صودرت مساجدها وختمت بالشمع الأحمر، وتغيرت معالمها وطمست إسرائيل كل ما هو عربي فيها، بعدما صادرت أوقافها.
لكن يافا تشهد هي الأخرى نهضة فلسطينية، باتت فيها المدينة القديمة وأحياؤها العربية موطناً لكثير من الشبان الفلسطينيين في الداخل الذين باتوا ينتقلون للعيش فيها. ويتشكّل فيها مجتمع متّقد بالحيوية يحاول قدر استطاعته مواجهة سياسات بلدية تل أبيب وحكومتها بالاستيلاء على عقارات العرب الفلسطينيين وهدمها للخروج بأبراج سكنية للأثرياء اليهود، ومشاريع سكنية للمستوطنين.
ويقول الباحث سامي أبو شحادة لـ"العربي الجديد" إن "أكثر من 30 ألف فلسطيني شاركوا في جولات بديلة سياسية في أحياء المدينة في العقدين الأخيرين. وكان جزء من هؤلاء المشاركين فلسطينيين ولدوا في المنفى وجاؤوا يبحثون عن بيوتهم بجوازات سفر أجنبية، إلى جانب مشاركين من سكان غزة تعود جذورهم لمدينة يافا".
إحياء المقدّسات
رحلات العودة إلى الجذور ومسيرات العودة، مع ما رافقها من تمترس في القرى المهجّرة، أدّت إلى تطوير هذا النمط من المقاومة لجهة إعادة فتح المساجد المغلقة والكنائس المهجورة. فأهالي قرية البصة المهجّرة يُجرون فيها منذ سنوات طقوس العمادة واحتفالات الأعياد. وشهدت كنيستها قبل أسبوعين أول حفل زواج منذ النكبة بعدما أصر الشابان ديب موريس صباغ وروان بشارة خوري على عقد قرانهما في كنيستها.
وقد تمكن الفلسطينيون في الداخل من إعادة الحياة لبعض الأماكن المقدسة كإقامة الصلاة والشعائر الدينية في كنائس القرى المهجرة في إقرث وكفر برعم ومعلول، وإعادة فتح بعض المساجد مثل مساجد حسن بيك والبحر في يافا، ومسجد صرفند ومسجد الجرنة في حيفا، ومسجد سيدنا علي.
يقول مسؤول ملف المقدسات في "مؤسسة الأقصى" عبد المجيد إغبارية لـ"العربي الجديد": "استطعنا ترميم عشرات المساجد وإعادة إقامة الصلاة في مسجد سيدنا علي في قرية الحرم المهجّرة".
ويضيف: "قمنا بصيانة جميع المساجد في المدن الساحلية مثل حيفا، وعكا، ويافا، والرملة، واللد. ورممنا مقام عبد رب النبي في يافا، ومقام الشيخ شحاده في قرية عين غزال المهجرة في قضاء حيفا، ومصلى الشيخ علي في قرية جبع، ومصلى الشيخ بريك في قرية عتليت".
ولا ينسى الفلسطينيون المقابر المهجورة، إذ يشير عبد المجيد إغبارية في هذا السياق إلى أن "هناك 250 مقبرة نقوم بصيانتها ورعايتها على مدار السنة وجميعها في قرى أو مدن مهجّرة، وهي مقابر كانت تستخدم قبل النكبة".