لأن البِشَارات لا تأتي فُرادى

20 فبراير 2018
+ الخط -
بدأ عامي السادس والعشرون بلحظات صعبة، لحظات تُخلِّف مرارة في القلب وغصة في الحلق، لحظات استحالت شهوراً حتى بدا لي أن الفرج لن يلوح أبداً في الأفق. كنت أعاني تورماً طفيفاً في أصابع يديّ العشرة، تورماً مصحوباً بآلام جعلتني عاجزة عن فرد أصابعي أو ثنيها. وغدت أيامي سلسلة متصلة من التردد على أطباء ينتمون لشتى التخصصات. وعلى الرغم من أنهم هرعوا إلى كتب الطب آملين أن يجدوا العلاج الملائم، فلقد عادوا جميعاً بإجابات متشابهة، مفادها أن كل الأشعات والتحاليل قد أعلنت بلا أدنى ريبة أن يديْ على ما يرام.
وقفوا جميعاً مكتوفي الأيدي أمام دموع أُرغِمت أن تكون حبيسة عينيْ، وابتسامة شكر تعبق بمرارة عميقة، ويدين عنيدتيْن آوتا آلاماً دفينة ولكنهما أصرتا أن تعلنا للعالم برمته أن لا خطب بهما.

غيّمت سحابة الاكتئاب على حياتي وأوشك اليأس أن يستبد بروحي، حتى قادني الله إلى طبيبٍ لا يكل ولا يمل. أمطرني وابلاً من الأسئلة وأجرى من التحاليل والأشعات ما لم يجره غيره من الأطباء، وبعد برهة وجيزة، أماط اللثام عن السبب وراء عذابي لشهور طويلة: "مفاصلك الصغيرة تتآكل بفعل الخشونة".


أخبرني أيضاً بأن الطب الحديث لم يتوصل بعد إلى علاج حتمي يقضي على خشونة المفاصل، وإن كان ثمة طرق مختلفة للتعايش معها. بِتُّ على الأقل أعرف ملامح العدو الذي أنا الآن بصدد مواجهته، وغدا ذاك الاكتشاف مصدر عزائي وصبري ومواساتي وبُشراي.

وفي صباح اليوم ذاته، كنتُ قد أجريتُ اختبار الحمل المنزلي مخافة أن يصف الطبيب دواءً قد لا أتمكن من أخذه. أخبرتني التعليمات المُلحَقة بأنه يتعين عليّ الانتظار خمس دقائق للتأكد من دقة النتائج، ولكنني وبعد مرور ثلاث دقائق ونصف الدقيقة على وجه التحديد، تأفَّفتُ من الانتظار ودققت النظر في الجهاز الصغير. ولمّا لم تظهر سوى علامة واحدة فحسب، مُعلنةً أن نتيجة الاختبار سلبية، تنفستُ الصعداء. في اللحظة ذاتها، باغتتني دمعة تدحرجت على خدي الأيمن. أكانت دموعاً تنم عن الارتياح أم الإحباط؟ لم أعرف قط.

حين عُدتُ إلى المنزل في المساء، هممتُ أن ألقي الجهاز المستخدَم في سلة المهملات ولكنني وجدتُ على سطحه علامةً أخرى باهتة تحدق فيّ، مُعلنةً بوداعة أن بُشراي الثانية قد أودعها الله في رحِمي. شعرتُ بوخز دموع حارقة في مُقلتيْ، ولكنني كنتُ متأكدة هذه المرة، الدموع دموع فرح واحتفال.

لم تَمُرْ سوى بضعة أسابيع قبل أن تُزف إليّ بُشراي الثالثة، قُبِلت في برنامج الماجستير في الصحافة والإعلام في إحدى أفضل جامعات القاهرة. ليس هذا فحسب، ولكنني ظفرت أيضاً بمنحة تتكفل بمصاريف الدراسة كافة على مدار العامين المقبلين.

بدا لي أن السواد الحالك الذي ظلل لوحة حياتي في مطلع هذا العام آخذ في الانقشاع، وأن الألوان المُبهجة قد شرعت في التسلل إلى لوحتي تلك، مُضفيةً لمسة من الأمل والإشراق والتفاؤل.

أوشك عام البِشَارات على الانتهاء، مُخلِّفاً في نفسي آثاراً لن يقدر على محوها الزمان. فلقد علمتني خشونة المفاصل ضرورة أن يتمتع المرء بلِيونة الأفكار، فليست ثمة لحظات مثالية لبدء الحياة والتنقيب عن السعادة، وقد يُولد السلام الداخلي مُحاطاً بأنين الأوجاع. وحين تتحمس صغيرتي وتركل بطني من الداخل، تنتابني موجة من القلق حيال مستقبلها، فأربت عليها برفق يُذكرني أن أرفق بوالديّ وأن أتقبل قلقهما الدائم، قلق غريزيْ أعلم الآن أنه لم يكن أبداً محاولات للتضييق عليّ.

وقُبيْل انتهاء الفصل الدراسي الأول، أدرك أن لا أحد يرى أصابعي المنهكة، العاجزة عن النقر المستمر على لوحة المفاتيح، الباحثة دوماً عن طرق بديلة لإتمام واجبات الدراسة. يتراءى للعالم إنجاز أحرزته، ولا يعرف أحد الثمن الذي تكبدته.

ما بين التعايش مع خشونةٍ والاعتناء بصغيرةٍ والمواظبة على دراسةٍ، لن تكون الرحلة يسيرة. لن تكون يسيرة على الإطلاق.
دلالات
B6A851C4-F77F-4921-9BA0-9C44DAE2B1B0
بسمة مصطفى طه

كاتبة ومترجمة مستقلة وطالبة ماجستير في الجامعة الأميركية بالقاهرة.

مدونات أخرى