في الستينيات، تردد عالم السيمياء الفرنسي والناقد الأدبي رولان بارت مراراً إلى المغرب، قبل أن يقرر عام 1968 الاستقرار في الرباط والتعليم في "جامعة محمد الخامس". ولا شك أنه تصادق مع عبد الكبير الخطيبي أثناء تلك الفترة، كما اكتشف معه ذلك الشعر الفرنكفوني الذي يقول غرابة الآخر بلغةٍ مألوفة. وحين أصدر الخطيبي كتابه الشهير، "الذاكرة الموشومة" (1971)، حيّا بارت هذا الإصدار في مقالٍ شهير بعنوان "ما أدين به للخطيبي". في ما يلي الترجمة العربية لهذا النص:
"نهتم، أنا والخطيبي، بالأشياء نفسها: الصور، العلامات، الآثار، الحروف، السمات. ولأنه في الوقت نفسه يزحزح هذه الأشياء كما أراها، لأنه يجرّني بعيداً عن نفسي، إلى أرضيته، إلى طرف ذاتي، يعلّمني الخطيبي شيئاً جديداً، ويزعزع معرفتي.
الخطيبي راهنٌ: يساهم في ذلك التوضيح الذي ينمو داخلي: تدريجياً، أُدرِكُ كم أن المشروع السيميائي الذي شاركتُ وما زلتُ أشارك فيه بقي سجين أنماط الشامل التي تحدّد، في الغرب، أي منهج.
خلال مساءلتي لبنية العلامات، كنتُ أطرح ببراءة أن هذه البنية تثبت عموميةً، تؤكّد هويةً لم تكن، في العمق، ونظراً إلى المدوّنة التي اشتغلتُ عليها دائماً، سوى هوية الإنسان الثقافي لبلدي. وبمعنى من المعاني، يفعل الخطيبي الشيء نفسه لحسابه، يسائل العلامات التي تكشف له هوية شعبه. لكنه ليس الشعب نفسه.
شعبي أنا ليس "شعبياً". لم تعد عملية إخراج هويته ـ ما نسمّيه "تقاليده" ـ سوى مادة تصلح لمتحف (وتحديداً متحف "التقاليد الشعبية" الذي يقع على طرف غابة بولونيا، على مقربة حديقة حيوانات قديمة: وفي الحالتين، يتعلّق الأمر بمحمية "إكزوتية"). ما يتوفّر لي للمساءلة، على أي مستوى من مستويات السلّم الاجتماعي، هو إنسان فرنسي "ثقافي" شكّلته الموجات المتعاقبة للعقلانية، والديمقراطية، ووسائل الاتصال الجماهيرية.
بينما يسائل الخطيبي إنساناً "شعبياً" بشكلٍ كلّي، لا يتكلم إلا بواسطة علاماته الخاصة، ويجد نفسه دائماً مغدوراً من الآخرين، إن بحديثهم عنه (الفلكلوريون) أو بنسيانه (المثقفون). أصالة الخطيبي، داخل إثنيته الخاصة، هي إذاً دائماً ساطعة: صوته فريد بشكلٍ مطلق، وبذلك تحديداً معزولٌ بشكل مطلق. لأن ما يقترحه، بشكلٍ مفارق، هو العثور من جديد على الهوية والاختلاف في الوقت نفسه. هوية من معدنٍ صافٍ ومشعٍّ إلى حد يُجبر أيّاً كان على قراءتها كاختلاف.
في ذلك يمكن لغربي (مثلي) أن يتعلّم من الخطيبي. لا يمكننا أن نفعل ما يفعله. قاعدتنا اللغوية ليست نفسها؛ لكن يمكننا أن نتلقّى منه أمثولة في الاستقلالية، على سبيل المثال: طبعاً نحن مدركون لانحباسنا الأيديولوجي، وبعضنا يبحث عن فكرة الاختلاف بمساءلة الآخر المطلق، الشرق (الزان، الطاوية، البوذية)؛ لكن ما علينا تعلّمه هو ليس أن نسمّع نموذجاً (اللغة تفصلنا عنه بشكلٍ مطلق) بل أن نبتكر لأنفسنا لغةً "لا تَصِفُ نفسها" (heterological)، "لُمَّةً" من الاختلافات يزعزع خليطها قليلاً الكثافة الرهيبة ـ لأنها تاريخياً قديمة جداً ـ للأنا الغربية. لهذا نحاول أن نكون "خلّاطين"، نستعير من هنا وهناك شذرات "من فضاءاتٍ أخرى" ( قليلاً من الزان، قليلاً من الطاوية، الخ.)، أن نبلبل هذه الهوية الغربية التي غالباً ما تثقل كاهلنا (لكن ليس دائماً: فلها ثمنها، ترفها).
ولإنجاز ذلك، لا يمكننا أن نتّجه نحو "الشعبي" الخاص بنا: لقد فقدناه؛ لكن يمكننا الانفتاح على "شعبيات" أخرى، يمكننا "الخروج من مركزنا"، كما يقال اليوم. وهنا تمنحنا كتب الخطيبي تسلسلاً حاذقاً وقوياً من العلامات المفسَّرة وفي الوقت ذاته يتعذّر اختزالها: ما يسمح لنا بإدراك الآخر انطلاقاً من ذاتنا".
* ترجمة عن الفرنسية: أنطوان جوكي