08 نوفمبر 2024
كُتِبَ في مثل هذا اليوم
إحدى خدمات موقع فيسبوك لمشتركيه استعادة الذاكرة، حيث يعرض للمشترك ما كتبه في مثل هذا اليوم منذ امتلاكه حسابه الشخصي على الموقع الأزرق. تسمح هذه الخدمة للمشترك أيضا أن يعيد نشر ما نشره سابقا على صفحته الشخصية. ثمّة إغراء في استعادة ما كتبه أحدنا ذات يوم، يشبه استعادة الذاكرة لفاقدها مؤقتا، والحديث هنا ليس عن نصّ أدبي لكاتب ما نشره على صفحته، وإنما عن الكتابة العادية اليومية التي نمارسها جميعنا على صفحاتنا، وربما أحيانا عن أغنيةٍ كنا نستمع إليها، ووضعناها على الصفحة، أو صورة في رحلة ما، أو طعام أعددناه في العام الماضي، أو مكان ذهبنا إليه، أو أي هراء كان قد خطر لنا وكتبناه، لنتشاركه مع من هم أصدقاء على صفحتنا. وجميعنا أيضا يخطر لنا أن نكتب كلاما بلا معنى، مجرد هراء محض، لا لشيء سوى لفرط الشعور بالوحدة أو العزلة، والحاجة الملحة لمشاركة تفاصيل لا معنى لها مع أحد ما.
يعكس هذا الميل إلى مشاركة الآخرين ما نفعله في يومياتنا، والذي لا ننتبه له ونحن نعيشه، حقيقتين مهمتين. الأولى أن التواصل مع الآخرين حاجة إنسانية ملحة، وأن العزلة والوحدة، حتى لو كانتا خيارا شخصيا واعيا، تأتيان من مساحةٍ روحيةٍ فيها خلل نفسي ما من دون أن نكون واعين له. والثانية أن وسائل التواصل الاجتماعي قللت من قدرتنا، نحن البشر، على التواصل الإنساني الفعلي، وأعطتنا بديلا يبدو أكثر سهولةً وأكثر قدرةً على كسر حاجز الخجل، لكنه بديل وهمي، ومثل أي وهمٍ آخر نعيش به، نبني عوالم وحيواتٍ، ونفترض علاقاتٍ وآمالا وأحلاما، وقد نقضي أوقاتا طويلة غارقين في تفاصيل هذا العالم، ونحن نظن أننا به نكسر وحشتنا، خصوصا أننا نصبح فيه أكثر مقدرةً على البوح، وهو ما لا مقدرة لكثيرين منا على فعله في الواقع. ونصبح فيه أيضا أكثر مقدرة على الكلام، نحن الذين نشعر أحيانا أننا لا نعرف ماذا يمكن أن نقول، حينما نتواجه مع البشر في الواقع.
ينتهي هذا كله ما أن نذهب ليلا إلى الفراش، أو حين يُصاب أحدنا بأزمةٍ صحيةٍ أو نفسيةٍ أو مالية أو عاطفية أو أية أزمة أخرى من أزمات الحياة اليومية. هنا تحدث المواجهة مع الواقع، مع رعب الواقع، مع الحقيقة، مع حقيقة أننا وحيدون، وأن لا أحد معنا لنستند إليه، وأننا نمد أيدينا للتشبث بشيء ما يمنعنا من الوقوع في هاوية الخوف أو الكآبة، فلا نجد غير الفراغ، وغير ترجيع الأصوات التي نطلقها لنعرف إن كنا ما زلنا قادرين على الكلام.
أعود يوميا إلى ذاكرة "فيسبوك" الخاصة بي، وأقرأ ما كتبت في الأعوام الماضية في اليوم نفسه، ويأتيني إحساس غريب أن الحياة تكرّر نفسها على ما يبدو، من دون أن أنتبه إليها، فهل من قبيل المصادفة، مثلا، أن أكتب العام الماضي، والعام الذي قبله، والذي قبله، عن فشل أو اكتئاب عاطفي تعرّضت له، وكتبت أمس منشورا عنه لا علاقة لمفرداته بمنشوراتي عن الحالة نفسها في الأعوام الماضية؟ وهل من قبيل المصادفة أن أكتب أعواما متتالية، وفي التاريخ نفسه عن أهمية الصداقة والأصدقاء في حياتي؟ وهل هو مجرّد مزاج أنني أستمع، في اللحظة نفسها التي أقرأ فيها ذكريات "فيسبوك"، إلى المقطوعة الموسيقية نفسها التي وضعتها على صفحتي العام ما قبل الماضي؟
ثمّة صفات نملكها وذائقة شخصية وقناعاتٌ، لا تتغير خلال عام أو عامين أو أكثر قليلا. تحتاج زمنا من التجارب والخبرات والاختبارات، كي تتغير. لكن يبدو يقينا أيضا، إلى حد بعيد، أن في الزمن الخاص بنا لحظات متشابهة تمر في الموعد نفسه سنويا. لحظات ومشاعر وانفعالات تتكرّر على مدى سنوات، هل للأمر علاقة بدورة الحياة والطبيعة والشمس والقمر علينا، أم هي مجرّد مصادفة أخرى من مصادفات الكون العجيبة؟ سؤالٌ أساله كل يوم، حين يعيد "فيسبوك" إلي ذاكرةً نسيتها عن حالتي في الأعوام الماضية.
يعكس هذا الميل إلى مشاركة الآخرين ما نفعله في يومياتنا، والذي لا ننتبه له ونحن نعيشه، حقيقتين مهمتين. الأولى أن التواصل مع الآخرين حاجة إنسانية ملحة، وأن العزلة والوحدة، حتى لو كانتا خيارا شخصيا واعيا، تأتيان من مساحةٍ روحيةٍ فيها خلل نفسي ما من دون أن نكون واعين له. والثانية أن وسائل التواصل الاجتماعي قللت من قدرتنا، نحن البشر، على التواصل الإنساني الفعلي، وأعطتنا بديلا يبدو أكثر سهولةً وأكثر قدرةً على كسر حاجز الخجل، لكنه بديل وهمي، ومثل أي وهمٍ آخر نعيش به، نبني عوالم وحيواتٍ، ونفترض علاقاتٍ وآمالا وأحلاما، وقد نقضي أوقاتا طويلة غارقين في تفاصيل هذا العالم، ونحن نظن أننا به نكسر وحشتنا، خصوصا أننا نصبح فيه أكثر مقدرةً على البوح، وهو ما لا مقدرة لكثيرين منا على فعله في الواقع. ونصبح فيه أيضا أكثر مقدرة على الكلام، نحن الذين نشعر أحيانا أننا لا نعرف ماذا يمكن أن نقول، حينما نتواجه مع البشر في الواقع.
ينتهي هذا كله ما أن نذهب ليلا إلى الفراش، أو حين يُصاب أحدنا بأزمةٍ صحيةٍ أو نفسيةٍ أو مالية أو عاطفية أو أية أزمة أخرى من أزمات الحياة اليومية. هنا تحدث المواجهة مع الواقع، مع رعب الواقع، مع الحقيقة، مع حقيقة أننا وحيدون، وأن لا أحد معنا لنستند إليه، وأننا نمد أيدينا للتشبث بشيء ما يمنعنا من الوقوع في هاوية الخوف أو الكآبة، فلا نجد غير الفراغ، وغير ترجيع الأصوات التي نطلقها لنعرف إن كنا ما زلنا قادرين على الكلام.
أعود يوميا إلى ذاكرة "فيسبوك" الخاصة بي، وأقرأ ما كتبت في الأعوام الماضية في اليوم نفسه، ويأتيني إحساس غريب أن الحياة تكرّر نفسها على ما يبدو، من دون أن أنتبه إليها، فهل من قبيل المصادفة، مثلا، أن أكتب العام الماضي، والعام الذي قبله، والذي قبله، عن فشل أو اكتئاب عاطفي تعرّضت له، وكتبت أمس منشورا عنه لا علاقة لمفرداته بمنشوراتي عن الحالة نفسها في الأعوام الماضية؟ وهل من قبيل المصادفة أن أكتب أعواما متتالية، وفي التاريخ نفسه عن أهمية الصداقة والأصدقاء في حياتي؟ وهل هو مجرّد مزاج أنني أستمع، في اللحظة نفسها التي أقرأ فيها ذكريات "فيسبوك"، إلى المقطوعة الموسيقية نفسها التي وضعتها على صفحتي العام ما قبل الماضي؟
ثمّة صفات نملكها وذائقة شخصية وقناعاتٌ، لا تتغير خلال عام أو عامين أو أكثر قليلا. تحتاج زمنا من التجارب والخبرات والاختبارات، كي تتغير. لكن يبدو يقينا أيضا، إلى حد بعيد، أن في الزمن الخاص بنا لحظات متشابهة تمر في الموعد نفسه سنويا. لحظات ومشاعر وانفعالات تتكرّر على مدى سنوات، هل للأمر علاقة بدورة الحياة والطبيعة والشمس والقمر علينا، أم هي مجرّد مصادفة أخرى من مصادفات الكون العجيبة؟ سؤالٌ أساله كل يوم، حين يعيد "فيسبوك" إلي ذاكرةً نسيتها عن حالتي في الأعوام الماضية.