مع أن الأدب يستعير صورة الطير في تحليقه للتعبير عن توق الإنسان لأن ينطلق "حراً كالعصفور" مقاوماً قوة الجاذبية، إلا أن موضوع مقالتنا لا يُعثَر عليه في الطبيعة.
وعلى الرغم من حلم الإنسان "بحرية الطيور" فإن الأخيرة ليست حرة، على خلاف البشر. فهي ليست حرة، لا في الرفرفة بأجنحتها، ولا في تغريدها. أما البشر فيبحثون في النهاية عن حريتهم في مواضعها الأثيرة، النفس الإنسانية والمجتمع البشري المنظم. الحريّة معرَّفةٌ بالعقل والإرادة، مشروطةٌ بهما؛ ومن نافل القول أنهما لا يتوفران في كائناتٍ لا تملك عقلاً وإرادة. فلا حرية في الطبيعة. وأضيفُ إلى ذلك أنه لا حرية في الكائنات فوق الطبيعية.
على كل حال، ربما لم يعد الأدب بحاجة لاستعارة صور الطيور. فقد كاد يتحوّل إلى مجرّد متفرّج على صور جحافل البشر الراكبين مخاطر البحر في برد الشتاء. عائلات بكاملها تتعلق بقوارب مهترئة حشرت فيها بغية الوصول إلى بر الأمان على شاطئ ما في الشمال. إنهم يرومون الأمن والأمان. هذا صحيح، ولكنهم لا يعرّضون أنفسهم لخطر الموت بحثاً عن الأمن وحده، بل أيضاً للتحرّر من الخوف.
ولا أقصد الخوف الراهن من الموت الفوري المحدق بهم، والذي يواجهونه بين الأمواج، بل الخوف المستمر "العادي" خلال العيش في الوطن وعلى تخومه. لقد خبروا حياةً في ظل الخوف الدائم. ولا يريدون ذلك لأبنائهم.
الحرية كقدرة على الاختيار، أي الحسم بين خيارات، ملازمة للإنسان، يمتاز بها عن بقية الكائنات. ولا حريّة للكائنات التي تقع دون الإنسان أو فوقه، الأولى بحكم طبيعتها، والثانية بحكم تعريفها.
وقد ميّزت الديانات التوحيدية الإنسان عن الملائكة بهذه القدرة على الاختيار بين الخير والشر، والتي تجعل الإنسان كائناً أخلاقياً يُتوقَّع منه التمييز بينهما واختيار أحدهما، مثلما يتوقع منه ككائن عاقل أن يميّز بين الصواب والخطأ أيضاً. ولا تنبع الحرية من العقل والإرادة فحسب، كون الإنسان قادراً على التفكير بالمادة وقوانينها الطبيعية (المكتشفة وغير المكتشفة بعد)، وعلى التفكير بهذا التفكير، بل أيضاً لأنه ينتمي إلى العالم النهائي النسبي المتعدد الذي يتضمن خيارات.
رأى بعض مفكّري النهضة العرب أن الإنسان خلق حرّ الإرادة، وهذه هي الحرية الطبيعية عنده. وبموجب هذا التفكير، من يسترقّ أو تحجب عنه حرّيته يمنع في الواقع من ممارسة حرية طبيعية معطاة فيه، فيمكنه أن يحتفظ بها داخل نفسه.
* مقطع من الفصل الثاني من كتاب "مقالة في الحرية"، وهو أيضاً جزء من محاضرة ألقاها عزمي بشارة في آذار/ مارس 2016، وتمثّل نواة الكتاب.