شاركت في جلسة نقاشية مع بعض الإخوة العرب، أغلبهم من مصر، حول الدبلوماسية الناعمة، وهي بعبارة مختصرة: نشاط غير رسمي يهدف إلى تغيير ثقافة أو زرع فكرةٍ ما في بلد ما. تحدثنا عن نشأتها وأهدافها ووسائلها، وقد تم التركيز في جلستنا تلك على إحدى الأدوات التي تستخدمها الدول في دبلوماسيتها الناعمة: دعم المنظمات غير الحكومية. على سبيل المثال، في وزارة الخارجية الأميركية قسم خاص معني بهذا الملف، يتابع الكثير من المبادرات والمشاريع التي تستهدف تمويل المنظمات الأهلية، بعضها خاص بمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
تدرك أجهزة الاستخبارات في الدول العربية الأهداف غير المعلنة التي من الممكن أن تستتر خلف الدعم الذي تحصل عليه هذه المنظمات، لذا فليس من المستغرب أن يكون الشك هو الأصل الذي يحكم عقلية الدولة تجاهها، خاصة في ظل ما يعصف بالمنطقة من تغييرات وحراك غير مسبوق.
فبرز السؤال التالي: ما الحل والحالة هذه؟ هل نُوقف عمل المنظمات غير الحكومية بحجة منع أي تدخل خارجي قد يحصل من خلالها؟ كيف نمنعها والكثير من الناس يستفيد من خدماتها وما تقدمه من تسهيلات، خاصة في الدول الفقيرة.
سؤال وجيه، يدعو من صياغته إلى القفز على الخلافات السياسية، للمحافظة قدر الإمكان على استمرارية عمل هذه المنظمات، خاصة تلك المتخصصة في العمل الخيري التي توفر للناس احتياجات أساسية، عجزت الدولة عن توفيرها بنفسها.
بادرت أنا بمداخلة: في رأيي يجب أن يسعى القائمون على هذه المنظمات إلى إيجاد قاعدة من الثقة مع الدولة، كأن لا تتدخل هذه المنظمات في العمل السياسي، حتى لا ينقطع الخير الذي تقدمه بسبب موقف أو رأي سياسي.
ما فاجأني حينها، وهو موضوع المقال، هي مداخلات أغلب اﻹخوة المصريين، والتي جاءت على النحو التالي: قال أحدهم: "يجب أن لا تكون السلطة في يد الدولة". استغربت القفزة الكبيرة هذه، من مناقشة مشكلة استمرارية عمل المنظمات غير الحكومية إلى موضوع توزيع أوراق "السلطة" بين الدولة والمجتمع!
وأنا في محاولة استيعاب المداخلة الأولى، جاءت الثانية لتزيد من محاولتي صعوبة: "لا يمكن أن يكون الحل متمثلاً في دعم الدولة لهذه المنظمات". الصعوبة كانت في فهم التبرير: "إذا ما دعمت الدولة هذه المنظمات، فستتحول إلى منظمات رسمية، تُملي الدولة عليها شروطها، وفي آخر المطاف لن تقوم بعمل لله، إنما ما تفرضه عليها الدولة". استطعت أن أمسك هنا خيطاً فاصلاً بين العمل للدولة، والعمل لله بالمطلق مرسومٌ في المخيلة هناك!
جاءت المداخلة الثالثة لتلخبط أوراق استيعابي أكثر: "النظام اﻹسلامي يعزز من قيم التكافل والتكاتف، فتعزيز هذا النظام سيدفع إلى إيجاد آليات تنظم العلاقة بين الدولة، يقصد هنا المتبنية للنظام الإسلامي بطبيعة الحال، والمنظمات غير الحكومية". هكذا، بكل بساطة وتسطيح! وكأن كل المنظمات خيّرة مسالمة، لا تنتظر إلا أن يحكمها نظام إسلامي ليعم خيرها على الجميع.
مداخلة رابعة "يائسة": "الدولة القومية والمركزية تظل شيئاً غير إنساني"، النتيجة غير المنطوقة: لا يمكن أن نصل إلى حل تحت ظلها. مداخلة خامسة: "السلطات في بلادنا هي كمن يقول لا أريكم إلا ما أرى ولا أهديكم إلا سبيل الرشاد". وسأكتفي هنا بهذه المداخلات، والتي كانت بالمناسبة كلها من إخوة مصريين.
بصراحة، لا أستطيع أن أتعاطف مع هذه الآراء، رغم أني جلست أتأمل الظروف الأمنية القاسية التي ربما كانت سبباً في تشكلها، لأني متأكد بأن مثل هذا الأفق لم يُغلق بسبب الظروف الحالية فقط، إنما كان لأفكار تأسيسية دور في بنائه، فأصبحت العقلية مأزومة بتسطيح المُعقّد، والقفز على تشعّب القضايا، والشمولية في النظرة، واحتكار الحق والصواب، الذي يكون عادة مقروناً بالدين.
لا أريد أن أُحمّل تلك المداخلات أكثر ممّا تحتمل، ولا أن أُسهب في تحليلها، ولكنها كشفت لي وبوضوح سبباً من أسباب انسداد الأفق في الحالة السياسية الراهنة، والذي يعكس في رأيي إنسداداً واضحاً في المخيّلة الفكرية لمعظم الناشطين السياسيين. كما كشفت لي أن التحدي أكبر بكثير من مجرد تغيير نظام، أو إسقاط انقلاب.
(البحرين)