كثر هم الأدباء والمثقفون والفلاسفة الذين حصدوا شهرة تخطت حدود بلدانهم إلى آفاق ولغات العالم. إلا أن هذه الشهرة بقيت في أغلب الأحيان محدودة بإطار النخب الثقافية والفكرية في كل بلد.
وحده غابرييل غارسيا ماركيز كان استثناءً، كاسراً الحاجز بين النخبة والجماهير بكافة ألوانها وأجناسها واختلاف ثقافاتها. ففي أي شارع أو باص أو حديقة من العالم، قد نفتح حديثاً عابراً مع الناس العاديين الذين لا تشكل القراءة روتيناً يومياً لهم، أو قد يقرؤون عشرة كتب في حياتهم كلها، ونسألهم عما قرأوا، فيعطوننا اسمين أو ثلاثة بينهم ماركيز.
النخب بحكم قراءتها اليومية تشكل نوعاً من قبيلة عالمية، ذات ملامح تتجه يوماً بعد يوم للتوحد بفعل تطوّرات العالم المتسارع، في حين تبقى الشوارع العالمية التي لا تقرأ يومياً "منفلشة" في تنوعها وتجربتها، وبالتالي ثقافتها. ومع ذلك تمكن ماركيز من جذبها بكلمته دون أن يخسر النخب، بخلاف كثيرين غيره تحوّلوا إلى مجرد كتّاب شعبويين وإن حصدوا شهرة واسعة أيضاً، الأمر الذي يطرح سؤالاً كبيرا: كيف فعل ذلك؟
السر في الكتابة دائماً.
قد تكون روايته "الحب في زمن الكوليرا" هي التي حملته إلى قلوب الناس في كل أنحاء العالم، لما للحب من قدرة على اختراق الحدود والعبور إلى قلوب البشر الذين يدهشهم الحب في كل مرة، ولا تزال تدهشهم فكرة أن ينتظر العاشق حبيبته خمسين عاماً، قبل أن يعيشا معاً بكامل عدّة الشبق. إذ لم تزل فكرة الرواية حتى اللحظة مدهشة رغم مضي عقود على كتابتها، ولا نزال حندهش لقصة مماثلة نسمع بها في الواقع. إنه التقاط للجوهري من وحل هذا العالم ورفعه إلى مصاف الكتابة: الحب الذي لا يشيخ. ولم لا؟ أليس هو القائل: "سأبرهن للناس كم يخطئون عندما يعتقدون أنهم لن يكونوا عشّاقًا متى شاخوا، دون أن يدروا أنهم يشيخون إذا توقفوا عن العشق".
إنها براعة الفكرة الخارجة من رحم الشارع وسوقيته، بعيداً عن قيم وتهذيب النخب التي تسير وفق قيمها التي تصنعها بنفسها وتتحوّل إلى قوانين جديدة وأصنام جديدة، في حين قال ماركيز: "سوف أسير فيما يتوقف الآخرون، وسأصحو فيما الكلّ نيام"، و"قل دائمًا ما تشعر به، وافعلْ ما تفكّر فيه".
وهذا ما يفسّر كتابته في أواخر حياته ما كان يمكن أن يكتبه غيره في أوائل حياته ("ذكريات عاهراتي الحزينات")، مكوّناً تجربته الفريدة التي قد تكون الصحافة ساهمت في تكوينها، فالتقط الجوهري والمشترك بين الشوارع العالمية والطرفية الغارقة في تخلّفها وطرفيتها، لكنها غنية في تعددها وقدرتها على الحب، فكانت روايته لغة عالمية في موضوعها لا في لغتها، ولهذا "ستعيش روايات غابرييل غارسيا ماركيز بعد موته، وسيفوز بِقرّاء في كل مكان من العالم"، كما قال خصمه اللدود وصديقه في آن، يوسا.